التاريخ لا يحتمل لىّ الأحداث، وحُسن الظن، والرضا بما فعل المُتاجرون بالإسلام قديمًا وحديثًا. تتحدث مقالات المُتأسلمين عن هارون الرشيد باعتباره مُفترى عليه، ويتجاوز بعضهم ليصفه بسادس الخلفاء الراشدين. وتنتشر كُتيبات التهليل للرجل باعتباره خليفة قويًا مُتمسكًا بالدين، يجاهد عامًا ويحج عامًا، ويقتل الزنادقة والمُتشككين فى أصول العقيدة. ويتناسى هؤلاء أن الرجل كان طاغية باسم الدين، يقتل بمجرد الريبة، ويسجن مَن لا يعجبه حديثه، ويتجبر على خلق الله باعتباره ظله فى الأرض. أوامره هى العدل المُطلق، وقراراته لا تقبل المناقشة، وأموال الجميع حلاله، أخذ ما شاء وترك ما شاء. وبين يديه خادمه المُطيع مسرور يحمل النطع والسيف ليقطع رقاب مَن حق عليهم الهلاك بمشيئته.
فى يومٍ ما طرق مبعوث الخليفة ليلا على باب القاضى أبى يوسف يعقوب كبير القضاة وحلال العُقد، ومفتى الطاغية. وقال الخادم للقاضى إن الخليفة يطلبه على وجه السُرعة فى تلك الساعة المتأخرة من الليل. وسأل القاضى إن كان يمهله حتى الصباح فأبى، فسأل إن كان لديه أحد فرد الخادم بأن لديه مسرور السياف، وانتابت القاضى حالة هيستيرية من الخوف، وظن أنه لابد مقتول الليلة، خاصة أنه يعرف مزاج الخليفة المتقلب. ودخل القاضى ترتعد فرائصه على هارون الرشيد فوجد لديه ابن عمه، فسلّم وقعد فأخبره الخليفة بأنه اشتهى واحدة من جاريات جليسه، وأقسم أن يأخذها وإلا قتل ابن عمه، فالتفت القاضى إلى ابن عم الرشيد وسأله هل أصابه الجنون، فرد بأنه أقسم بالطلاق من زوجاته وبعتق جميع عبيده والتصدق بكل ماله إن باع الجارية أو وهبها إلى أحد. وقال الرشيد للقاضى إن كان لديه حل حتى لا يضطر إلى قتل ابن عمه، فقال القاضى إن لديه حلًا، وهو أن يبيع صاحب الجارية نصفها ويهب نصفها، ففى تلك الحالة فإنه يبر بقسمه، وصفق الحاضرون وأمر الخليفة بمكافأة قاضيه الذى عاد إلى بيته مُحملًا بالذهب والفضة. ويومًا آخر جرى نفس الموقف واستحضر الخليفة التقى قاضيه ليسأله عن جارية يريد أن ينكحها، وتزعم أن أباه نكحها من قبل، وفوجئ برد القاضى بأن شهادة الجارية لا تصح، وأن عليه أن يقضى حاجته منها متى شاء. أما ما يخص مصر فى أفعال الخليفة العادل فمزرٍ ومؤسف، فكان هناك والٍ رشيدٍ على مصر هو موسى بن عيسى العباسى، وهو رجل استطاع أن يجمع الناس حوله بتسامحه ولينه وكرمه، وسعى البعض لايغار صدر الرشيد عليه، فقالوا له إن موسى يحشد الناس حوله فى مصر، فقال: والله لأعزله بأخس من هو على بابى. ولما كانت أحلام الرشيد أوامر، وتعهداته فرمانات لا تقبل النقاش، فقد سارع وزيره جعفر البرمكى إلى تلبية قراره، وخرج من الديوان لينظر مّن هو ذلك الخسيس الذى يمكن أن يتولى ولاية مصر بدلا من موسى. وبالفعل رأى كهلا على بغلة يعمل كاتبا لوالدة الخليفة، فسأله: يا هذا، هل تتولى مصر؟ فانبهر الكاتب البسيط موافقا، فكتب له جعفر مرسوما بذلك، وأمره أن يسافر به إلى مصر، وهكذا كانت سياساتهم فيما تحت أقدامهم من بلاد ورعايا يسوسونهم باسم الدين.