تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
جاء حكم القضاء الإداري ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية واستمرار تبعية الجزيرتين للسيادة المصرية بمثابة قنبلة شديدة الانفجار .. حيث أعادت للمصريين الأمل في الاحتفاظ بالجزيرتين وعدم ردهما للسيادة السعودية .
ومع كامل احترامنا لأحكام القضاء والالتزام بعدم التعليق عليها .. إلا أنه يجب القول أن هذا الحكم ، في وجهة نظري ، سيثير عدة إشكاليات كنا جميعا في غنى عنها .. فمن ناحية جاء في اتجاه المشاعر الوطنية الجارفة نحو الاحتفاظ بالجزيرتين حتى لو كانت كل الدراسات والخرائط والاتفاقات تؤكد أنهما من حق السعودية وذلك انطلاقاً من المثل الشعبي الدارج "اللي ربى خير من اللي اشترى" .
ومن ناحية أخرى التقطت بعض الأقلام وأغلب الصحف والمواقع الإليكترونية ، هذا الحكم وبنت عليه رؤى واستشرافات مستقبلية لما سيترتب على هذا الحكم وكأنه حكم نهائي .. ، حتى أن الزميلة "الأهرام العربي" عنونت غلافها الرئيسي لعدد اليوم الأربعاء بالعنوان التالي: "بأمر الشعب .. ثيران وصنافير مصرية" وفي هذا العنوان ما فيه من تأجيج للمشاعر القومية واستحالة قبول أي رأي آخر بخلاف هذا ربما انطلاقاً من مبدأ "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد للقدر أن يستجيب" .
أما ثالث الأزمات التي ربما يخلفها حكم القضاء الإداري هذا فيتعلق بالسؤال التالي : كيف سيكون الحال إذا ما أقرت باقي درجات التقاضي بحق المملكة السعودية في السيادة على ثيران وصنافير خصوصاً بعد الطعن الذي تقدمت به هيئة قضايا الدولة ضد هذا الحكم .. الإجابة بمنتهى البساطة أن الشعب لن يقتنع إلا بالحكم الأول الذي من ناحية يتناغم مع مشاعره .. ومن ناحية أخرى سيفسر رجل الشارع أي حكم آخر بأنه تم تسييس القضية أو ممارسة ضغوط على القضاء ، رغم أن حكم القضاء الإداري ينفي تماما وجود أي ضغوط .. إلا أن المصريين باتوا أكثر ميلاً لتغليب نظرية المؤامرة وهذا أمر لا بد من وضعه في الحسبان ونحن نناقش أبعاد هذه القضية .
ومع كامل تقديرنا لوطنية هذه المشاعر لدى أبناء الشعب المصري التي أكدت أنه رغم قسوة أي ظروف فإن المصري لا يقبل التفريط في حبة رمل واحدة أو شبر من أرض وطنه ، أو حتى التي يعتقد أنه أو قل يعتبرها كذلك ، فإن أطراف المعادلة طرأ عليها متغير جديد لا يمكن إغفاله .. لذا أتوقع تغييراً سياسياً كبيراً في التعاطي مع قضية الجزيرتين يقوم على إقناع الشعب أولاً وبشكل عملي في أن الأرض ليست أرضنا وأننا لا نبيعها بل نعيدها .
وينبغي قبل كل هذا على صناع القرار في مصر إقناع رجل الشارع ، الذي ربما لا تعنيه من قريب أو بعيد بالخرائط والمستندات ، بالحيثيات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية الموجبة لقرار إعادة الجزيرتين أو حتى الفوائد المشتركة التي ينبغي أن تعود بالنفع على البلدين والمشروعات الحيوية التي ستسهم في إدارة عجلة الاقتصاد الوطني الذي بتنا في أمس الحاجة إليه .. فبدون هذا ستصبح مهمة تهيئة الشعب لفكرة أن جزيرتي "ثيران وصنافير" سعوديتان مهمة بالغة الصعوبة .
وقد كتبت منذ أكثر من شهرين وتحديداً في منتصف شهر أبريل معلقاً على أزمة "ثيران وصنافير" السطور الآتية:
حسب فهمي المحدود للغاية فإن القرار في حد ذاته لم يكن ليحدث كل هذه الضجة لو أنه سلك طريقاً غير الذي سلكه وهذا ينقلنا إلى ما يطلق عليه عملية "الإخراج السياسي" للقرارات المصيرية .. فرغم ثقة أبناء هذا الشعب الصابر الكريم في نبل الهدف الذي اتخذ من أجله والذي عبر عنه الرئيس بحرصه على عدم تكدير صفو العلاقة بين الشعبين والبلدين الشقيقين إلا أن عامل الصدمة والمفاجأة غير مسار القضية ونقلها من حسابات النوايا الحسنة والقرارات الاستراتيجية التي ليس من المفترض إطلاع الشعب على تفاصيلها إلى حسبة أخرى تماماً .
وبطبيعة الحال، أو قل كالعادة، تحولت مصر كلها إلى ساحة جدل ونقاشات أشبه بـ "فيس بوك" كبير يتم خلاله تصارع الآراء وشد الملابس ما بين المؤيدين لهذه الخطوة والمعارضين لها .. وبغض النظر عن موقفي من صحة القرار أو خطأه أسمح لنفسي أن أتجاوز هذا التساؤل إلى نقطة أخرى أراها لا تقل أهمية .
ففي تقديري الخاص أن هذا القرار كان من الجائز أن يمر مرور الكرام لو كان لدى الرئيس مستشارين في حنكة الفنان العملاق نجيب الريحاني الذي يعتبر وبحق مدرسة ليس في الفن فقط وإنما في الحياة .. فلنا أن نتخيل لو كان "الريحاني" بيننا ونتذكر المشهد التالي من الفيلم الخالد "أبوحلموس":
"حضرة المحترم مؤنس أفندي ياقوت: مرسل لكم طيه كشف بمبلغ 92 جنيه و17 قرش و3 مليم قيمة ما تم صرفه في بياض الغرفة البحرية بمنزل حارة قاوين" .
كان ذلك هو البيان الذي قرأه نجيب الريحاني فور استلامه العمل كاتبًا في أملاك أحد باشوات زمان، فتندر الريحاني قائلا: "أوضة واحدة" ليه.. بياض بلبن زبادي؟ بمربة تفاح؟ .
عندها قال الناظر الذي سمع التعليق: طيب يقيدهم ازاي؟ ودون أن يعرفه الريحاني قال "نكتب: كحت البياض القديم كذا، سنفرة الحيطان بعد الكحت: كذا، تقطيب الخروم بعد السنفرة: كذا، تمليس الحيطان بعد التقطيب كذا، ودهان أول وش: كذا، دهان ثاني وش كذا، دهان ثالث وش: " كده نكتب الكشف 192 جنيه كمان " .
وسأل الناظر: طيب لو كتبنا تكاليف الخروف 18 جنيه تبقي كتير؟ تعجب الريحاني قائلا: ليه خروف مسكوفي ! إحنا نكتب : حبل ومخلة وجردل لزوم أكل الخروف كذا، حكيم بيطري لزوم الكشف على الخروف كذا، مزين لحلاقة شعر الخروف: كذا، أكل وشرب للخروف: كذا، كلاف لتنظيف حظيرة الخروف: كذا، كده نخليها 48 جنيه مش 18" .
قد يتسرع البعض في حكمه على استحضارنا للمشهد السابق بالقول أننا ندعو الرئيس إلى "اللف والدوران" على شعبه، ولكنني على هؤلاء أرد : ما عاذ الله ولكن يا أسيادنا هذه طبيعة البشر شئتم أم أبيتم .. تصدمهم المفاجأة لدرجة توقف عقلهم وتخرس ألسنتهم .. وتزعجهم الحقيقة وإن خلصت النية من ورائها .. فعلى سبيل المثال إذا أردت أن تخبر شخصاً ما نبأ الاستغناء عنه من العمل فالسيناريو في الغالب كالتالي : مسئول أو مسئولة الـ "اتش آر" ستتحدث إليه قائلة : "المدير مبسوط جدا من مجهوداتك الرائعة وبيبلغك انه مستغني عن خدماتك الجليلة".
نعم هذه طبيعة البشر .. فلو كان بيننا نجيب الريحاني لخرج علينا بالضرورات الملحة والأهداف الاستراتيجية لهذا القرار معدداً الفوائد الجمة التي ستعود على مصر والمصريين من مشروعات استثمارية وتشغيل آلاف الشباب .. ساعتها أعتقد المواطنين كانوا هيفكروا بطريقة مختلفة تتناسب مع حيثيات وأهداف القرار .. مش كدة ولا إيه ؟ .