كان قد تم نقل جثمان الرئيس جمال عبدالناصر من بيته إلى قصر القبة.
وطوال الليل ظلت جماهير المصريين المذهولة المصدومة تتدافع من شوارع القاهرة.. لتملأ الشوارع المحيطة بالقصر.. وكأنه سرادق عزاء عزيز من البشر. بدأ قبل أن يطلع صباح يوم الوداع..
دموع.. وصراخ وأنّات محتجزة بفعل الصدمة فى الحناجر..
ونساء فى ملابس الحداد.. رجال وشباب تملأ الدموع عيونهم.. صغار يبكون وهم يشعرون بالحزن الكبير.. حزن مصر.. على ابن مصر.
السادسة صباحًا..
دخل إلى القصر أربعة رجال هم الدكتور صلاح جبر طبيب الرئيس، واللواء الليثى قائد الحرس الجمهورى، والدكتور عبده سلام وزير الصحة، والدكتور كمال السيد مصطفى كبير الأطباء الشرعيين، وبعد نصف ساعة بدأت الاستعدادات لغسل الجثمان.
وكان أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى قد أمضوا الليل فى القصر بجوار الجثمان وهم متوجهين إلى عيادة القصر حيث سيتم غسل الجثمان.
بعد دقائق بدأت عملية الغسل.. وأشرف كبير الأطباء الشرعيين على لف الجثمان بالأكفان ووضعه فى الصندرة.
وفى تلك اللحظة..
كانت حديقة قصر القبة الواسعة تبدو خالية إلا من ثلاث سيارات جندية تابعة للحرس الجمهورى وسيارة إسعاف.. شق اللواء سعد الدين الشريف ياور رئيس الجمهورية ونور فرغلى ياور الرئيس طريقهما وسط أمواج البشر التى تحيط بالقصر إلى الداخل.
كان المشهد مهيبًا يصعب وصفه..
فى هيبة ورهبة دخل حسين الشافعى وأنور السادات عيادة القصر ليلقيا نظرة الوداع الأخيرة على جثمان الزعيم ورفيق السلاح والنجاح، وعلى باب العيادة وقف أربعة ضباط من الحرس الجمهورى، والدموع فى عيونهم!
وكانت بداية رحلة الوداع الأخيرة فى الساعة السابعة والنصف.
وتقدم ثمانية من ضباط الحرس الجمهورى.. الذين رافقوا الرئيس جمال عبد الناصر طوال حياته.. ليحملوا نعش الرئيس الذى كان ملفوفًا فى علم الجمهورية العربية.. وكان أطباء رئاسة الجمهورية قد رأوا أن يوضع جثمان عبدالناصر بعد وفاته فى عيادة قصر القبة لأنها مكيفة بالهواء البارد انتظارًا ليوم تشييع الجنازة بعد ثلاثة أيام من الوفاة.
وكانت الأوامر بمنع دخول العيادة بعد ذلك نهائيًا أو فتح أبواها.. حتى تظل درجة الحرارة ثابتة طوال الأيام الثلاثة.
ومضى ضباط الحرس الجمهورى الثمانية يحملون نعش الرئيس عبدالناصر.. وصعدوا سلالم القصر.. حتى وصلوا إلى القاعة الكبيرة المواجهة لمكتب الرئيس..
ووضع النعش الملفوف بالعلم فوق مائدة خضراء.. ووقف حوله أربعة من ضباط الحرس الجمهورى، وعن قرب وقف أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى وحسن التهامى ومحمود الجيار مدير مكتب الرئيس للشئون الداخلية.. واللواء سعد الدين شريف ياور طيار الرئيس والمقدم إبراهيم توفيق فردوس الرئيس.
وكان الجميع لا يستطيعون السيطرة على دموعهم..
والتفت أنور السادات إلى بعض رجال الصاعقة.. وكان يبكى بحرارة.
وقال لهم: أرجو أن تسجلوا هذه اللحظات الرهيبة!
روت الصحف المصرية كلها تفاصيل ما حدث فى صباح اليوم التالى وقالت:
وتوجه أنور السادات ومرافقوه إلى الصالون الملحق بمكتب الرئيس وهناك تلقى مكالمة من مجلس قيادة الثورة، أخطروه فيها أن الطريق مغلق تمامًا وأن سير الجنازة متعذر.
ورد السادات فى تأثر: الناس معذورين!
وبعد دقيقتين تلقى الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى، مكالمة تليفونية أخرى تفيد بأن الجماهير حاولت تحطيم سيارة المدفع الذى سيحمل جثمان الرئيس عبدالناصر، وكانت تصرخ بأنها ستحمله فوق أكتافها!.
لكن رجال الحرس نجحوا بصعوبة فى إبعاد الجماهير عن عربة المدفع، وأسرع حسن التهامى واتصل بمنزل الرئيس وطلب إبلاغ أفراد أسرة الرئيس بألا يغادروا المنزل لأن الطريق مسدود وأن ينتظروا حتى يتصل بهم مرة أخرى.
وقبل السابعة بخمس دقائق دق جرس التليفون وكان المتحدث شعراوى جمعة، الذى أبلغ رئيس الحرس الجمهورى بعدم تحرك أحد من قصر القبة.. لأن أكثر من ٤٠ ألفًا من الجماهير اقتحموا الموقع وتجمعوا فى منطقة فندق هيلتون.
وبعد دقيقة..
دق جرس تليفون قائد الحرس الجمهورى مرة أخرى.. وكان المتحدث من أسرة محمد أحمد سكرتير عبد الناصر، الذى تحمل معه أكثر من ٢٠ سنة، وقال إن محمد أحمد فى حالة خطرة نتيجة الإعياء وإن الأطباء أمام إصراره على الخروج لتشييع الجنازة أعطوه حقنة مسكنة تمكنه من الوصول إلى قصر القبة.. وفعلًا وصل محمد أحمد إلى القصر بعد دقائق وكان يبدو كالشبح باهت اللون.. يسير بصعوبة متحاملًا حزينًا، الهالات السوداء تحيط بعينيه!.
اتصل أنور السادات بشعراوى جمعة وسأله عن الموقف. فى الوقت نفسه اتصل قائد الدبابات التى كانت تقف فى ميدان رمسيس بنور فرغلى وقال له: لا يوجد مكان حتى لنملة تسير فى الميدان!
وفى أحد الأركان كان حسين الشافعى وعلى صبرى ومحمد أحمد وحسن التهامى ومحمود الجيار يجلسون والدموع لا تزال فى عيونهم.
فى الثامنة والنصف..
اتصل الفريق أول محمد فوزى بأنور السادات وأبلغه بأن الجنازة سوف تسير فى طريقها المرسوم بعد أن كان هذا متعذرًا، وكان البعض قد بدأ يفكر فى تغيير طريق الجنازة.. بسبب احتشاد ملايين المصريين المفجوعين فى وفاة زعيمهم.
كان الموقف قد بدأ يتحسن قليلًا حول مقر مجلس قيادة الثورة، وتم إخلاء المنطقة الواقعة أمام فندق هيلتون.. وبدأ إعداد طائرة هليكوبتر ثانية لتنقل أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى إلى مجلس قيادة الثورة.. لتعذر وصولهم بالسيارات.
ثم طلب المقدم إبراهيم توفيق من حرس رئاسة الجمهورية.. إعداد تليفزيون فى مبنى الكلية الفنية العسكرية الواقع أمام مسجد عبدالناصر، حتى تتمكن السيدتان هدى ومنى عبدالناصر.. من متابعة سير الجنازة.. بعد أن اختير لهما هذا المكان لقربه من المسجد.
وأقلعت فى الساعة التاسعة الطائرة الهليكوبتر التى تحمل أنور السادات وعلى صبرى وحسن التهامى.. أما حسين الشافعى فقد بقى ليركب الطائرة التى ستحمل جثمان الرئيس عبدالناصر.
وحانت اللحظة التى سيغادر فيها جمال عبدالناصر قصر القبة إلى الأبد!
وقف حسين الشافعى ومحمد أحمد ومحمود الجيار خلف الجثمان..
وكان وراءهم كبار ضباط الحرس الجمهورى..
وتقدم حملة النعش وحملوا جثمان الرئيس من فوق المائدة..
وتحرك الموكب الحزين خارجًا من قصر القبة..
وصاح ضابط حرس الشرف بصوت مرتعش ممزوج بالدموع: انتباه!
ومضى جثمان عبدالناصر أمام حرس الشرف..
وأدى الحرس التحية العسكرية.. ونكس العلم فوق سجادة خضراء.
مئة متر..
قطعها الموكب الحزين فى حديقة القصر..
وأخيرًا توقفوا أمام سيارة الإسعاف.
وفى تلك اللحظة المروعة..
صاح عكاشة ساقى العهدة فى قصر القبة بصوت خافت: مع السلامة يا ريس!
تم وضع الجثمان برفق داخل سيارة الإسعاف..
وقرأ الواقفون الفاتحة على روح الرئيس..
وببطء تحركت سيارة الإسعاف.
والكل يصيح فى انفعال: مع السلامة يا ريس.. مع السلامة يا ريس.
ومضت سيارة الإسعاف وخلفها ثلاث سيارات جيب إلى مكان الطائرة الهليكوبتر والتى كانت قد وصلت منذ السابعة صباحًا.. وهبطت فى حديقة القصر بالقرب من البوابة الرئيسية.
ولأول مرة..
كان علم رئيس الجمهورية فوق الباب الرئيسى منكسًا.
وهو العلم الذى لا يتم تنكيسه.. إلا عند وفاة رئيس الجمهورية!. وفى الأسبوع المقبل نكمل بقية مراسم الجنازة المهيبة.