ولعل هذا المقال لهيكل عن رحيل عبد الناصر سيبقى هو الآخر.. أكثر كلمات هيكل قربًا إلى نفسه وقلبه ووجدانه! قال هيكل: إن التاريخ فوق مشاعر الأفراد! وكذا التاريخ أيضًا ليس الأحداث.. وإنما هو الناس الذين يصنعون هذه الأحداث!
وفى بداية هذا المقال التاريخى قال هيكل عن عبد الناصر: «إنه بكل عظمته لم يصنع مصر، ولكن مصر بكل عظمتها هى التى صنعته، ولو ولد فى غير مصر لما ظهر، ولو ظهر فى غير مصر ما استطاع».
دوره البطولى كله جزء من قدرها التاريخى..
إن دور البطل ظل مرة مؤقتة فى التاريخ ويجب أن يكون كذلك. لأن الأصل والأساس الباقى والخالد هو الشعب. وأن يكون دور البطل ظاهرة مؤقتة فى التاريخ، فذلك مما يعنى أنه صدفة، وإنما البطل فى الأمة الحية ظاهرة طبيعية، وإن لم تكن كظواهر الشروق والغروب كل يوم! إن البطل إنسانى تتسع همته لآمال أمته.. وهى فى فترة خطر.. تستودعه كل سرها.. وتعطيه كل طاقتها.
لكى يتقدم باسمها.. ويواجه ويزيح ويقتحم.
وهى بعد الخطر سترد سردها.. وتأخذ طاقتها.. لأن مسيرتها تصبح بالضرورة أعرض من دور البطل.. وكأن البطل فى التاريخ جسر عبور لأمته..
من القلق إلى الشجاعة..
من الحيرة إلى التقدم..
مما كان إلى ما يجب أن يكون.. أو فى اتجاهه على الأقل.. وقد يقال إنه كان فى دور جمال عبد الناصر قيمة.. كلنا نتمنى من الله أن يتركه بيننا، قد يقود زمن التحرير ويشهد يومه.
ثم نتذكر أن جمال عبد الناصر أدى فى الحقيقة كل دوره أو معظمه.
وعندما نسأل أنفسنا: ما الدور الذى حققه عبد الناصر؟
فإننا يجب أن نتشرف أنفًا واسعًا.. ذلك أن المعركة التى نخوضها الآن أزمة سوف تمر، وحدتها فى وجداننا تجيء من أننا ما زلنا فيها، لكنها سوف تمضى، كما مضت قبلها الأزمات فى تاريخ الأمم الحية. ودور عبد الناصر عندما نتشرف الأفق الواسع يتجاوزها فى الحقيقة.
إن هناك إنجازين بارزين فى دور جمال عبد الناصر من وجهة نظر الحكمة العامة للتاريخ.
أولهما: أنه وصل مصر بأمتها العربية.
ثانيهما: أنه وصل أمته العربية بالعالم وبمصر.
هذا ببساطة هو دوره، وتحته تتدرج كل التفاصيل، وتتعدد معارك الحرية التى لم تتوقف يومًا قبل رحيله. ولا أظنها سوف تتوقف بعد الرحيل!
بعد أن ألقى أنور السادات بيان رحيل جمال عبد الناصر فى الإذاعة كان أبو عودة وزير الإعلام والثقافة الأردنى فى مكتبه فى عمان.
وسمع الخبر بنفسه..
فأسرع يرفع سماعة التليفون ويطلب الملك حسين.. قال له: جلالة الملك.. البقاء لله الرئيس جمال عبد الناصر توفى، وأذاعت القاهرة النبأ.
مرت لحظة صمت.. يعرف أى تعبيرات ارتسمت على وجه الملك حسين فى تلك اللحظة.. كان قد عاد إلى عمان قبل ساعات قليلة فى مؤتمر الملوك والرؤساء العرب.. وكان جمال عبد الناصر على حد قول الأردنيين أنفسهم «أنقذ جلالة الملك فى المؤتمر الكبير». وظل وزير الإعلام الأردنى صامتًا على الناحية الأخرى..
وأخيرًا رد الملك حسين بصوت متهدج يغلبه الانفعال: يا الله.. مات الرجل.. عندما بدأت الأمة العربية تستفيد منه.. فى رحمة الله يا جمال!
يقول المصريون: «الأعمار بيد الله».
وهى مقولة يؤمن بها كل مسلم بوجه عام.. لكن إذا كان مقدرًا للرئيس جمال عبد الناصر أن تنتهى حياته يوم ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠ لكن الدنيا كلها كانت تعرف أن زعيم العرب الذى لم تكسره هزيمة ٥ يونيو بقدر ما أثرت فيه وعليه. كان يتحمل ضغوطًا هائلة يصعب أن يتحملها بشر بعد هذه الهزيمة.
كان الرجل رغم المرض والآلام المتزايدة يحاول أن يرتفع فوق آلامه الشخصية، فى محاولة مضنية لتضميد جراح وطنه وأمته.
فيما كان يعمل على أن تستعيد القوات المسلحة المصرية قوتها من السلاح والرجال كان فى نفس الوقت يسعى للم الشمل العربى، ووضع القضية الفلسطينية فى صدارة كل القضايا العربية.
لكن القدر كان يخبئ لعبد الناصر المزيد من الآلام النفسية العنيفة – غير آلام المرض – فى الأيام التى تجاوزت العشرة والتى سبقت آخر يوم فى حياته. كانت هناك مجزرة عربية لا تتوقف فى الأردن. قد بدأت قبل شهر عندما أحدثت السلطة الأردنية عدة تغييرات فى قيادات الجيش الأردنى. وأبعدت خلالها العناصر المعروفة تبعًا لطفلها الثورة الفلسطينية. وفى نفس الوقت تتصاعد محاولات الإساءة إلى سمعة المقاومة الفلسطينية بين جماهير الشعب الأردنى.
الأحداث الرامية فجأة..
وخلال الأيام التى سبقت رحيل جمال عبد الناصر تفجرت أنهار الدم الفلسطينى فى عمان، وأربد وجرش وعجلان والزرقاء.. وفى معظم أنحاء الأردن.
وامتلأت شوارع عمان بالآلاف من جثث الأبرياء من الأطفال الكبار والنساء والشباب، وسادت رائحة الموت كل مكان، بينما أزيز الرصاص ودوى انفجارات القنابل لا يتوقف!
كان الموقف ميئوسًا منه!
وقال ياسر عرفات فيما يشبه الصرخة: الغدر فظيع ووحشى.. إنها موقعة تشبه موقعة كربلاء، وهناك تصفية وإبادة تامة للشعب الفلسطينى.. هناك خمسة وعشرون ألفًا بين قتيل وجريح وليس هناك خمسة وعشرون ألف فراش.
لقد أخلت السلطات عمان من الأردنيين قبل الضرب، ثم حاصروها بثلاث فرق، ويقدر عدد الجنود بأربعة وسبعين ألف جندى، أغلبهم تم سحبهم من خطوط الجبهة إلى عمان، وقد تم القبض على ١٤ ألف شاب فلسطينى من بيوتهم، فقط لأنهم قادرون على حمل السلاح، ولكن ليس لهم سلاح! وكتب جرارد ميل كيمب مراسل «الديلى تليجراف» البريطانية الذى شهد الأحداث الجارية فى عمان. يقول: إن عمان مليئة بالقتلى والجرحى والنقالات تكفى فقط عشرهم، وقد قال لى جان بير هرش مندوب الصليب الأحمر إن التقديرات المبدئية تقول إن عدد القتلى فى عمان قد وصل إلى حوالى سبعة عشر ألفا من المدنيين.
وقال الفدائيون الفلسطينيون إنهم فقدوا ثمانية آلاف، وكانت سيطرة الفدائيين كافة على جبل الحسينى، وكانت المنطقة نفسها مكدسة بالأطفال والنساء، وكان يتحتم أن يلقى الكثيرون منهم العناء، وما زاد من خطورة الموقف أن هذه المناطق كانت تضم مخازن ذخائر، وقد شاهدنا الشوارع وهى مليئة بالسيارات المحترقة وحاملات الجنود التى تشتعل فيها النيران، وتساقطت أعمدة التليفونات وتدلت منها الأسلاك، والأرض مليئة بطلقات الرصاص النارية. إن عمق المأساة لا يبدو من خلال المعارك، والمأساة تبدو بوضوح فى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التى نسفتها القوات الأردنية، وأبادت الآلاف من سكانها من النساء والأطفال.
ولقد حارب الفدائيون داخل عمان بشجاعة وبسالة لم يكن يتوقعها أحد.
كان الغرب يصم الآذان فى كل مكان فى عمان، وكانت طريقة الجيش فى معالجة الموقف عجيبة، أى نافذة فى أى بيت تطلق منها رصاصة واحدة، فإن هذا معناه تدمير البيت بأكمله على من فيه بالمدفعية الثقيلة!