الخميس 26 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

اليوم الأخير.. ناصر يقبل مشروع روجرز "6"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن فى استطاعة أحد أكثر من الكاتب الصحفى حسنين هيكل أن يروى القصة الحقيقية لصراع جمال عبدالناصر مع المرض والآلام.. ورغم ذلك فقد احتاج هيكل إلى أربعة أسابيع بعد رحيل عبدالناصر. ليروى - بصراحة - هذه القصة التى عكست وجهًا نادرًا من وجوه قوة وعناء جمال عبدالناصر وعمق إيمانه بمسئوليته الكبيرة.
وفى تلك الفترة كان الأطباء قد تأكدوا من خطورة الحالة الصحية للرئيس جمال عبدالناصر.. واكتشفوا متاعب قلبه.. وانسداد شرايين ساقه.. وأخيرًا وافق تحت إلحاح أن يحصل على إجازة إجبارية لمدة أسبوع فى أسوان، كما أن الإجازة لم تستمر سوى يوم واحد.
فقد مات عم عبدالناصر.. وركب الرئيس القطار من أسوان إلى الإسكندرية ليقوم بتشييع جنازة عمه. ثم يعود مباشرة إلى القاهرة.. ناسيًا أمر الإجازة التى يصر عليها الأطباء! ويكمل هيكل رواية القصة: «وجلسنا معه مرة.. وكلنا اعترض على الطريقة التى يعمل بها.. ما بين خمس عشرة وثمانى عشرة ساعة فى اليوم.
وكان بعض الأطباء معنًا.. وقال أحدهم إنه علم من السيد سامى شرف أن الرئيس يسأل عن قائمة الخسائر فى الجبهة كل ليلة.. وأن هذا السؤال يكون الأخير فى عمل النهار والليل. قبل أن ينطفئ النور فى غرفة نومه!.
وقال عبدالناصر فى بساطة: ولماذا لا أسأل عن ذلك.. أليس طبيعيًا أن أعرف؟
وقال الطبيب ولعله الدكتور فايز منصور: ألا يمكن تأجيل هذا السؤال إلى الصباح؟ 
قال عبدالناصر: لو أجلته إلى الصباح لما استطعت أن أنام.. سوف أظل أحسب وأخمن طول الليل.. لا أستطيع أن أنام إلا بعد أن أعرف وأطمئن.. إن المدافع والدبابات لا تهمنى ولكن تهمنى الخسائر فى الناس.. إن الناس شيء كبير وعزيز. كل جندى وكل ضابط هناك له أسرة.. له زوجة وأولاد وربما له أم وأب ما زالا على قيد الحياة.. وبالتأكيد له أقارب وأصدقاء.. لا يمكن أن نفكر فى الناس بطريقة مجردة. الناس هم أغلى شيء! 
ثم سافر جمال عبدالناصر إلى موسكو المغطاة بالثلوج.. وكان عمله فيها من أعظم الضربات الاستراتيجية.
وتوقفت غارات العمق. لكن التفتت فى الجبهة الشرقية بدأ تعليقه.
يقول هيكل: وتحمس الرئيس عبدالناصر لفكرة عقد اجتماع فى ليبيا على أساس الطرح القومى للمعركة استجابة لنداء معمر القافى، وكانت محبته له غلابة، وكان يرقب حركته السرية واندفاعه القوى. ويسمعه أحيانًا وهو يخطب. 
ويقول له فى محبة: معمر.. أنت تذكرنى بشبابي!.
وتلقى مشروع روجرز وهو فى ليبيا وفكر فيه طويلًا.. وكان اتجاهه إلى قبول التحدى وانتظار نتيجته.
وسافر إلى موسكو بعد ذلك فى زيارة رسمية. وجاءه الدكتور شازوف يرجوه فور الانتهاء من محادثاته أن يذهب إلى مصحة «بربيني» لإجراء كشف شامل جديد عليه.
وقال له شازوف: إننى أفزع حين أتابع برنامج عملك وزياراتك! 
وتم الكشف الشامل عليه فى «بربيني».. وجاء شازوف.. ومعه الدكتور فلادمير. يقولان له: من الضرورى أن يبقى الرئيس هنا شهرًا! 
ثم ذهب شازوف إلى الرئيس بريجينيف يرجوه الإلحاح على الرئيس بالبقاء. واقتنع عبدالناصر.. وذلك بعد أن رأى تقارير الفحص. وعده بأسبوعين فقط.. وقال لشازوف: إننى مضطر للعودة من أجل المؤتمر القومى لا بد أن أكون فى مصر قبل ٢٠ يوليو.
وعاد إلى مصر.. عاد إلى معركة من أعنف المعارك: وقف أمام المؤتمر القومى يتكلم ويقبل مشروع روجرز لأسباب قدرها وحسب حساباتها.
وأحس أن هناك تساؤلات مطروحة فى العالم العربى.. وقرر أن يجلس فى اليوم التالى أمام المؤتمر لمناقشة مفتوحة تذاع على الراديو والتليفزيون! 
ثم جلس إلى المؤتمر فى اجتماع سرى.. أوضح فيه كل الخطط والحقائق بصراحة كاملة.. ومضت الحوادث وهو لا يتوقف.. وانفعالاته تلاحق جهده.. فقد كان يعمل بكل مشاعره. وبدأ يحس بالإرهاق يضغط عليه.. وبالآلام تشتد.. وقرر أن يذهب إلى مرسى مطروح.. فى إجازة لأسبوع كامل.. واتفقنا ألا يتصل به أحد.. مهما كانت الظروف! 
ويقول هيكل فى نهاية الحكاية الحزينة: لكن الأزمة فى الأردن انفجرت.. 
وبقى الكل مترددًا فى الاتصال به هناك. أول أيام الأزمة. لكنه عند المساء كان قد سمع من الإذاعات بما يجرى. واتصل هو!
وطلب موافاته أولًا بأول بالتفاصيل.. وجاءه معمر القذافى فى اليوم التالي! مرسى مطروح. 
ونقلت إليه بالتليفون عدة رسائل جاءته من ياسر عرفات. 
وقرر أن يبعث الفريق صادق إلى عمان. برسالة منه إلى الملك. ثم انضم إليه فى الرسالة الثانية إلى الملك. معمر القذافى وجعفر النميرى. وعاد إلى القاهرة من مرسى مطروح. وكان المؤتمر الكبير الذى التقى فيه ملوك ورؤساء الدول العربية لبحث أزمة الأردن على وشك أن ينعقد. 
ومن سيارته على الطريق الزراعى بين الإسكندرية والقاهرة. كان التليفون فى يده. وكان يرتب للاجتماع. وكان أطباؤه جميعًا فى حالة ثورة كاملة! وكانت كلمتهم له بالإجماع تقريبًا: إن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو. 
وحين نقل إليه الدكتور الصاوى رأيهم. وأنه يوافقهم فى غرفته بفندق الهيلتون. الذى كان مقرًا للاجتماع الكبير. كان رده بغضب: ماذا تقولون؟ فى كل دقيقة يمكن أن يقتل عشرات من الرجال والنساء والأطفال فى عمان. ألا ترون أننا فى سباق مع الزمن؟! 
ولا يملك هيكل، وهو الكاتب الذى تعود على أن تكون كلماته موضوعية تخاطب العقل قبل المشاعر، إلا أن يخضع لتأثير مشاعره الغارقة فى الحزن لرحيل جمال عبدالناصر.
فى النهاية.. وبكلمات أقرب إلى الدموع يختم هيكل حكاية رحيل عبدالناصر باكيًا أو قائلًا: «رباه» كأنه كان يعرف! كنا بالفعل فى سباق مع الموت! لماذا عجزت عن التصديق والتصور إذن أيامًا بعد الرحيل؟ وكيف لم أصدق وكنت من شهود ملحمته الرائعة فى الصراع مع الألم؟! وكيف وقد كنت واحدًا من الذين وقفوا بجوار فراشه لحظة الرحيل؟! لا أعرف..
ثم أذكره وهو يقول مرات عديدة.. أثناء مناقشات طويلة كانت تجرى بيننا. أنت تؤمن بالعقل أكثر مما ينبغى.. فى بعض الأحيان هناك أشياء لا بد أن نأخذها كما هى.. ببساطة وبغير أن نعقدها.. هناك أسئلة بدون جواب.. وستبقى دائمًا بدون جواب!.
وكنت صادقًا يا معلمنا!.