جريمتنا لا جريمتهم. عارنا لا عارهم. مهانتنا جميعا نحن الذين تثاقفنا وحملنا أقلامًا لنكتُب ونرصد ونُحلل، عن أحلام لا تتحقق، وأوطان لا تُبنى، ومُجتمعات مُتحضرة لا تقوم أبدًا.
ما جرى فى قرية كرم بمركز أبوقرقاص فى المنيا يلسع الروح ويذبح النفس ويئد بقايا الإنسانية فى أدمغتنا المُغلقة. إذلال مصريين بأيدى مصريين، وفضح علنى لسيدة اقتربت من حافة القبر لا لشيء سوى لكونها أمًا لشخص أقام علاقة مع سيدة تنتمى لديانة الأغلبية. هرب العاشق الذى ينتمى للأقلية كما يحدث دائمًا فى الصعيد، وتتبعت عائلة السيدة الخائنة أسرته فطاردوا أشقاءه، وأحرقوا بيوتهم ولما لم يجدوا سوى أمه أحضروها وزفوها عارية فى شوارع القرية إمعانا فى المهانة والإذلال.
أى عقول ونفوس وقلوب تسمح بمثل هذا العُرف الموغل فى التخلُف والبداوة والقروسطية!، أى دولة تُغمض عيونها وتصُك سمعها عن قهر طائفة من المصريين بسبب خطيئة فرد؟، وأى قانون يحكم بلدا تمتد حضارته آلاف السنين وصار عُرضة للاختراق والتجاهل دون أى رد فعل؟، وأى مجتمع اهتم بالمُشاهدة وانشغل بالثرثرة ولم يعرف أن السيدة المسُنة التى زُفت عارية هى أُمنا جميعًا؟.
أن تكون مسيحيًا فى مصر يعنى أن تكون آخر، غيرًا، غريبًا، مُختلفًا، لكن أن تكون مسيحيا فى الصعيد تحديدا فإن ذلك يعنى أنك خادم، وعبد، ومغلوب على أمرك دائما. لا حديث عن حقوق دستورية، ولا دولة القانون، ولا حضارة الخمسة آلاف سنة فى ظل هذا القهر المُجتمعى الرهيب.
حكى لى ضابط شرطة صديق يعمل فى المنيا وقائع مروعة حول نظرة العامة إلى المسيحيين فى محافظات الجنوب والتى لا تستند إلى دين أو قانون سوى أعراف الغابة. هُناك على غير المُسلم أن يسير ضعيفًا، وأن يبدو دائما مُضطهدا، ومقهورا، وألا يرفع صوته ولا يُجاهر بشعائره، ولا يشكو مُسلمًا، وأن يكون على استعداد تام للرحيل عن بيته وأرضه إن تسبب أحد من أسرته أو أقربائه فى مشكلة ما. بمعنى آخر أن يسير فوق الرصيف، ويعترف بالمذلة، ويقبل بالهوان إن ارتكب أحد من طائفته خطأ. والحكومة ؟، والشرطة والقانون ؟.. أسأل صديقى فيفاجئنا بأن التعليمات دائما هى الصمت، وعدم التدخل، وتغليب الأعراف على القوانين. «لو تدخلنا مُساندين للحق فستتسع الأمور، ولن تُصبح قادرين على شىء». هكذا يقودنا المُجتمع الجاهلى. ينتصر بأعرافه وعادات أهله الجائرة، ولا يعترف بألفية ثالثة ولا عولمة أو تطور تكنولوجى، ويغرق سفينة الوطن فى لجاج مُعتمة، ويشوه الدين ويسىء إليه.
الصمت جريمة، لذا كتبت هذا المقال، وحسبى أننى فعلت ما أستطيع.
والله أعلم.