الخميس 19 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

"البوابة" تسجل تجارب واعترافات أشهر قضاة "كشف الكذب"

 محمد سليمان العيادي
محمد سليمان العيادي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«العيادي»: توارثت المهنة عن أجدادى ومش عايز أورثها لأولادي
العرض والشرف.. أصعب القضايا التى تواجهني
الشرطة على علم بنشاطى والدولة تعترف بالأحكام والمجالس العرفية
البشعة هى أقدم جهاز اخترعته البشرية، لكشف الكذب، وهى إحدى الوسائل التى امتهنها البدو، وخاصة عرب العيايدة، للتحكيم فيما بينهم.. والبشعة عبارة عن قطعة حديد يطلق عليها «طاسة»، يتم تسخينها حتى تتوهج، ويتحول لونها إلى الأحمر، ثم يلعقها المتهم، لتقرر مصيره، من حيث البراءة أو الإدانة، وهناك ثلاث بشع رئيسية، عند قبائل بئر السبع فى فلسطين، وفى سيناء، والشرقية بمصر، وفى جنوب الأردن، وشمال الحجاز، بشبه الجزيرة العربية، وهى: بشعة العيادي، وهى محصورة فى عائلة أبو عويمر، من المحاسنة، من السلاطنة، من قبيلة العيايدة فى سيناء، ومقرها اليوم بالإسماعيلية.
بشعة الدِّبِرْ: وهى محصورة فى الدّبُور من العمران من قبيلة الحويطات، فى جنوبى الأردن (العقبة)، وقد انتهت هذه البشعة فعليًا عام 1976، بموت آخر مبشع، وهو على بن مساعد الدبر، وإلغاء قوانين الإشراف على البدو.
بشعة العلى (بلى): وهى محصورة فى عائلة العلى، من القواعين، من مخلد، من قبيلة بلى الحجاز (وليس بلى سيناء)، ومقرها شمال غرب الحجاز، وقد انتهت كما انتهت بشعة الدبر، ولم تبقْ إلا بشعة العيادي.
هنا بمحافظة الاسماعيلية، فى قرية سرابيوم، تتمركز قبيلة عرب ألعيايدة، التى اشتهرت بالمجالس العرفية، والتحكيم بالبشعة، فمهنة «المبشع» ليست بالهينة، ولا يستطيع أى شخص القيام بها، فقط توارثتها العائلات من أبناء قبيلة العيايدة، ومؤخرا انتقلت إلى إحدى عائلات الصعايدة، عائلة الجبلاوي، لكن لكل شيخ طريقة، ويتميز المبشع بالصلاح والتقوى، والصبغة الروحية الدينية البادية عليه بجلاء، والصدق بحيث لم يُعهد عنه الكذب قط، ومعرفته غير العادية ببواطن الأمور.
«البوابة» زارت منزل محمد سليمان العيادي، أشهر مبشع بمنطقة سرابيوم، بطريق الإسماعيلية السويس الصحراوي، حيث ذاع صيت قبيلة العيايدة، لامتهانهم البشعة، وعقد الجلسات العرفية لفض المنازعات بين الأهالي، عوضًا عن اللجوء إلى القضاء، خاصة بين أبناء العائلة الواحدة.
فما إن تدب قدمك على مدخل محافظة الإسماعيلية، تجد على الطريق إعلانات تحمل أرقام هواتف كثير من المبشعين، وما إن تتخذ طريق السويس، لتصل إلى كوبرى سيناء، وتسأل عن قاضى عرفى المنطقة، تجد «ألف من يدلك»، على كوبرى أبوعرفية، ذلك الكوبرى الذى اشتُقَ اسمُه من الجلسات العرفية، وعند مدخل الكوبرى تجد لافتة كبيرة مكتوبا عليها «البشعة العرفية».
منزل بدوي، يحمل هيبة صاحبه، تحوطه الأشجار والورود، لتستقبل الزائرين، وتترك لهم أثر الراحة النفسية فى وجدانهم، وما إن يفتح الباب على مصراعيه، نسمع عبارات الترحاب باللهجة البدوية، تسبق أقدامنا داخل البيت على اليسار، تجد ساحة مكشوفة، لها سقف فقط فى المنتصف، موقد النار مليء بالفحم، ويجاوره مصرف صغير لتصريف المياه، وطاسة حديد، وهى الآلة التى تُستخدَم فى البشعة، ودفتر إيصالات.
فى البداية؛ يقول «العيادي» (٤٤ عامًا)، إنه توارث المهنة أبًا عن جد، وقد اختصه أبوه، بهذه المهنة، قبل وفاته، وتعلم أصولها، بداية من قراءة طلاسم التحصين، والتعزيم على الطاسة، ولا تصيب النار إلا المتهم، واكتساب الخبرة لكشف المتهم.
وللعيادى ٥ من الأبناء، فى مراحل التعليم المختلفة، ويمتهن مهنة المبشع منذ ١٢ عامًا، لكنه لا يتمنى توريثها لأحد أبنائه، مؤكدًا أن لهذه المهنة، الكثير من المخاطر، فضلا عن اضطرار القاضى لفضح شخص ستره الله، ولكن هذا يكون السبيل الأخير لفض المنازعات.
بادرنا بقوله: «أنا عايز ولادى يعيشوا حياة طبيعية، ويكملوا تعليمهم». وأضاف «أنا هنا أفصل فى نزاعات الشرف، وزنا المحارم، وهو أصعب ما أواجهه من خلال مهنتى لكشف المستور، كما نفصل فى قضايا القتل والسرقة، والأمر لا يقتصر على البدو فقط، بل يحضر إلى البشعة هنا المشاهير والشخصيات العامة».
وأثناء تواجدنا فى مجلس «العيادي»، لاحظنا سيارتين ملاكي، تقفان أمام المنزل، لضيوف قادمين من القاهرة، قصدوا بشعة العيادي، للفصل فى قضية سرقة بين أبناء العم، وبعدما استمع المبشع لتفاصيل القضية، وتأكد من عدم إجبار أحد على الحضور، واتفاقهم على التبشيع، قام بكتابة المحاضر، ووقع كلا الطرفين على إيصالات الأمانة لضمان حق المجنى عليه، صاحب المال المسروق، ثم طلب منهم تعيين كفيل ليحضر «الخلوة»، وهى عبارة عن جلسة ينفرد فيها المبشع مع المتهم، ليسأله بعض الأسئلة، ليطمئن قلبه للاتهام الموجه.
وقبل بدء عملية البشعة، قام المبشع بدور المصلح والقاضي، وبدا أنه لا يألو جهدًا فى الإصلاح بين الطرفين، حيث يتم شرح القضية كاملةً إليه، وقدم للفريقين جميع الحلول الممكنة، وفى آخر المطاف، عندما تفشل الحلول ولمحاولات، تبدأ مراسم البشعة.
وأقسم كلا المتهمين أنهما غير مسئولين عن السرقة، ولا علم لهما بالسارق، ولم يريا الأموال المسروقة، ولم يتفقا مع أحد على السرقة.
وبصوت جهورى قال: «أشعل البشعة... قُضى الأمر»، وكتب المبشع فى ورقة، نوع الجريمة التى سيلحس عليها المتهم الطاسة الملتهبة، ودفنها قرب موقد النار، وهى ما تعرف فى قانون البشعة بـ(دفن الحصاة)، ثم طلب من المتهمين إخراج لسانيهما أمام الجميع، ليروا إذا كانت توجد بهما أى عيوب أو بثور، قد تسبب لهما الأذى أثناء لعق الطاسة.
وبعدما تأكد من سلامتهما، واحمرت الطاسة، طلب من أحدهما أن يجلس فى اتجاه قبله الصلاة، جلسة القرفصاء، ويقرأ الجميع «الفاتحة»، ثم فرك به ذراعه ثلاث مرات، لكى يؤكد أن النار لا تضر الأبرياء، وأمر المتهمين أن يلعقا تلك الحديدة الملتهبة ثلاث مرات، بلفظ أنهما غير مسئوليَن، ولم يقوما بالجريمة المنسوبة إليهما.
وبالفعل؛ لعق المتهم الأول الطاسة، ثم تمضمض بماء، وبعد عدة دقائق، عاود المبشع اختبار لسان المتهم، ليعلن بعد ذلك أن ذلك الرجل بريء من التهمة المنسوبة إليه، ثم كرر التصرف نفسه مع المتهم الثاني، ليعلن بعدها أيضًا براءته، وهنا سقط صاحب المال المسروق على الأرض باكيًا، مترجيًا المبشع أن يلعقه النار، ليتأكد الجميع أنه بالفعل سرق ماله، ولا يتجنى على شقيقه، وابن عمه، لكن المبشع رفض، وطلب منه أن يحضر المتهم الثالث فى الجلسة المقبلة، ليبرئ زمته أمام الجميع.
ويقول المبشع «العيادي»، إن من أهم شروط هذه المهنة، أن يتصف من يمارسها بتقوى الله، وألا يظلم أحدًا، ويضيف أن أناسًا يأتونه من عدد من البلدان العربية، فى جرائم منكرة، ويتم اللجوء فيها إلى البشعة.
ويشير إلى أن قضايا الشرف هى الأكثر حساسية، ولها خصوصية، فلابد أن يتحدد مع من ارتكبت المرأةُ الفاحشة، ويجب أن يتحدد بالاسم، ولا توجه لها التهمة جزافًا، بل يجب على من اتهمها تحديده، حيث إنها عند «دفن الحصاة»، تقول: أنا فلانة بنت فلان، وفلان ابن فلان لم يباشر معى الفاحشة، ومن غير الجائز أن تلحس البشعة مباشرة، على أنها لم ترتكب الحرام، لأن الانسان بطبعة خطاء، فيجب تحديد نوع الحرام، ومع من ارتكبته.
وأوضح «العيادي»، أن جميع القضايا التى يتم فيها اللجوء للبشعة، لا يكون لها رد شرف، إذا تم تبرئة المتهم، فبراءته تكفيه، إلا فى قضايا العار، فهى النوع الوحيد من قضايا الذى يوجد له رد شرف، فى حال ثبوت البراءة من التهمة، حيث يعد هذا قصفًا للمحصنات، ناهيك عن الآثار النفسية، ونظرة المجتمع لهذه المرأة حتى تمت تبرئتها، وهذا النوع يحول من بعد البشعة إلى القاضى المختص بالنساء، والحكم فى قضايا العار، وهو الذى يقيم الآثار التى ترتبت على اتهامها، وبناء على تقييمه يحدد ما تستحقه من مال أو غيره كرد شرف.
ونفى المبشع ما يثار من إشاعات حول البشعة؛ وقال إن النار لا تمس الأبرياء، ولا يفسدها سحر، حيث إن خبرته فى هذه المهنة تمكنه من كشف الكذب، ومن يتحايل على البشعة بتناول المخدرات، كما يستطيع أيضًا فك السحر. وكل محاولة لحس للبشعة لابد أن نذكر فيها أن الشخص الذى يتم تبشيعه لا يستند إلى السحر، وحدث كثيرًا أن أتى أشخاص للبشعة، وهم مذنبون، وكانوا يستندون إلى السحر، حتى لا تأكلهم النار، لكن بتوفيق الله استطعنا كشفهم.
وبالنسبة لرسوم التقاضي؛ قال «العيادي»، إن كل حالة تختلف عن الأخرى، واستطرد قائلًا: لا يهم المال، فهناك بعض القضايا التى لم آخذ فيها أى أموال، وأذكر منها على سبيل المثال أن متهمًا جاءنى يقول أريد أن أبرئ نفسي، وأظهر الحق، وأفك عنقى من الذل والإهانة؛ مشيرًا إلى أنه فى العادة يتراوح المبلغ بين ٣٠٠ إلى ١٥٠٠ جنيه، بحسب القضية، وأغلى أجر للتقاضى يكون فى قضايا الدم والزنا.
وذكر أنه فصل فى قضية سحر، وكان المسحور مربوطًا منذ ١٤ عامًا، حيث قامت المتهمة بوضعه فى فم ميت، لتمنع ابن عمها من الزواج من غيرها، وعند الحضور أمام النار انهارت المتهمة، واعترفت بجريمتها، وتعهدت بفك السحر، وهناك قضية أخرى كان المجنى عليهم أطفالا، اتهموا والدهم بالتحرش والتعدى عليهم، وهى تعتبر من أصعب القضايا، التى أكون فى حيرة منها، لكن فى النهاية أذكر نفسى بأن «الدنيا مليانة بلاوي».
كما استطعت كشف أحد سارقى محطة تموين وقود، حيث اختلس شخص ٦٧ ألف جنيه، ولم يتمكن صاحب المحطة من كشفه، حتى بعد عرض المتهمين على النيابة، وعندما لجأوا للتبشيع، وأثناء الجلسة كشفت المتهم، وحكمت عليه بتوقيع إيصالات أمانة بالمبلغ المسروق، وأعطيته مدة ليرده لصاحب المحطة، بعدما تحفظت على سيارته، كضمان لرد الأموال المسروقة، وبالفعل فى اليوم الثانى أحضر الأموال المسروقة.
ومن أشهر القضايا التى نظرتها، سرقه مبلغ ٢٨٠ ألف جنيه، من إحدى شركات الكهرباء، وكمية من السبائك النحاسية، وتم إحالة ٢١ متهمًا لمركز شرطة الإسماعيلية، ولم يتمكن رجال المباحث من معرفة المتهم، والجميع حصل على إخلاء سبيل، لكن صاحب الشركة لجأ لى للفصل فى القضية.
وبعد سماع طرفى النزاع، ومواجهتهما ببعض الأسئلة، وتوجيه الاتهام لهما، اعترف مدير الشركة بأنه تواطأ مع أحد العاملين بسرقه المبلغ، وعلى الفور تم إبلاغ الأجهزة الأمنية، بالاتفاق مع صاحب الشركة، لمعاقبة المتهم، وما إن وصل الخبر لرجال المباحث، طلب الضابط «أحمد. ن»، رئيس المباحث وقتها مقابلتي.
وقال لى الضابط: أنا اتعلمت فى كلية الشرطة، وحصلت على العديد من الدورات التدريبية، لملاحقة وكشف الجناة، لكننى عجزت أمام هذه القضية، فكيف لرجل بدوى مثلك يستطيع حل اللغز، فقلت له خبرة الحياة علمتنى الكثير، وقد توارثت البشعة عن أجدادى «كل واحد معلم فى مهنته»، فمن أول جلسة أشك فى أحدهم، وأكتشفه من توقيعه، أو بصمته، وأضيق عليه الخناق فى الأسئلة حتى يقر ويعترف. مؤكدًا أن الشرطة على علم بنشاطه، وأن الدولة تعترف بالأحكام والمجالس العرفية، «وكثيرًا ما قمت بحل مشاكل، وأظهرت حقوقا، ورفعت مظالم، وساعدت الشرطة».