فى زحمة الهوس بالإفتاء فى قضية الطائرة المنكوبة، راح من يفهم ومن لا يفهم يدلى بدلوه فيما يعرف وفيما لا يعرف، صار الجميع خبراء فى جميع المجالات، من السياسة إلى علوم الطيران، فاختلطت الأوراق وسط سيل الفتاوى المبنية على تكهنات وفرضيات، ليس لها وجود إلا فى خيالات مروجيها، كما تاهت المعايير الأخلاقية، وتلاشى الوعى بالثوابت الوطنية، عبر غرق البعض فى دوامات إصدار الأحكام دون دراية بالتفاصيل الأمنية والفنية، فضلا عن التعامل مع الشائعات الصادرة من وسائل الإعلام الأجنبية، باعتبارها مسلمات، لا يجوز التشكيك فيها، رغم أن جميعها يصب فى خانة، مفادها إدانة الشركة الوطنية المالكة للطائرة «مصر للطيران».
وسط مشاعر الحزن المشحون بالغضب على الضحايا، غاب الوعى بضرورة استنفار الجهود نحو الاصطفاف، ولو مؤقتا، بعيدا عن المواقف السياسية، وحلت بدلا منه الشماتة المتوطنة فى غابات وأحراش النفوس الموحشة والقلوب المعطوبة، بهدف التقليل من قيمة الدولة والتشكيك فى قدرتها على معاملة غيرها بالمثل.
قبل الغوص فى التفاصيل، لا بد من تأكيد أمور جوهرية وموضوعية فى ذات الوقت، ليس من حق أحد أو جهة، استباق التحقيقات وإصدار الأحكام، عما إذا كان حادث الطائرة المنكوبة بفعل فاعل، أو تم لسبب آخر، هل هو جريمة إرهابية أم عطل فنى، هل هناك تقصير أمنى فى مطار «شارل ديجول» الفرنسى الذى انطلقت منه الطائرة، أم أن شيئا آخر بعيد عن هذا وذاك، فالأمر برمته قيد الفحص والتحقيق.
المؤكد أيضا أن مصر تتعرض لمؤامرة، وهذه حقيقة، لا يمكن إنكارها بحال من الأحوال، فضلا عن أنها لا تحتمل وجهات النظر، أو الغوص فى الرؤى الفلسفية والتنظيرية للنيل من الإقرار بتلك الحقيقة.. مصر تخوض حربا ضد الإرهاب، نعم، الحرب القذرة تديرها أصابع أجهزة استخبارات دولية، نعم، إذن، لماذا التشكيك فى أن تكون المؤامرة وراء ما جرى، خصوصا إذا علمنا ارتباط بعض الجرائم بمحاولات إفشال التقارب مع بعض الدول، حدث هذا مع روسيا وإيطاليا وفرنسا. مفهوم المؤامرة يفسره عدم مطالبة الحكومة الغربية بمراجعة إجراءات الأمان فى مطارات فرنسا على غرار ما جرى مع مصر، لم نجد من يقول إلغاء الرحلات إلى فرنسا، وهذا كاف بفضح ازدواجية المعايير.
الأمر ذاته يقودنا إلى الوقوف أمام مساحة الشائعات المغرضة، فهذه المساحة مفتوحة دون ضابط أو رابط فى وسائل الإعلام الغربية، خصوصا الأمريكية، جميعها يشير بجلاء عن حجم التربص، وتوظيف كافة الأمور ضد الدولة المصرية، تطلق سهامها المسمومة ضد مصر بمناسبة ودون مناسبة، ادعت شبكة «سى إن إن» الإخبارية وثيقة الصلة بالدوائر الأمنية الأمريكية، انتحار قائد الطائرة المنكوبة، فى محاولة خبيثة من جانبها لتكرار الأكذوبة التى روجتها هيئة السلامة الأمريكية قبل خمسة عشر عاما، ومفادها انتحار الطيار «جميل البطوطى» الذى سقطت طائرته أمام السواحل الأمريكية، وهى الواقعة التى تسربت بشأنها وقتها معلومات تفيد بإسقاطها بصاروخ أطلق من منصة بإحدى القواعد الأمريكية، بما يعنى أنها عمل استخباراتى بامتياز، خصوصا إذا علمنا أن الطائرة كانت تحمل على متنها ٢١٧ راكبا، بينهم عدد من الضباط ذوى الكفاءة العالية فى المجال الاستراتيجى.
فى هذا السياق المرتبك بالشائعات والتكهنات المتضاربة التى تروجها وسائل الإعلام، حول سقوط الطائرة، يصبح من الضرورى توجيه سهام الاتهامات، نحو الهيئة العامة للاستعلامات، باعتبارها المؤسسة الرسمية المنوط بها مخاطبة الرأى العام العالمى، بتفاصيل ما توصلت إليه سلطات الدولة من معلومات حول الواقعة، لدحض أساليب التضليل ومواجهة الحرب الإعلامية المغرضة التى تقودها حكومات وأجهزة استخبارات.
على جانب آخر من القضية، يتضح أن هناك غيابا حقيقيا من الأجهزة الرسمية المصرية عن خريطة الوجود فى قلب المشهد الإعلامى والانكفاء على مخاطبة أنفسنا بصوت عال، ونحن نعلم بأن أحدا لا يسمعنا، ولن يسمعنا، وهذا هو سر الفشل الدائم فى التصدى لمحاولات الإعلام الخبيثة، تكشف حقيقة هذا الفشل المراسلة الفرنسية «فينسيان جاكيت»، التى رفضت أن تقوم بتزييف الحقيقة لصالح جريدتها «لاسوار» الفرنسية.
ما الذى جرى؟ وما قصتها التى أرى أنها تستحق الوقوف أمامها بقدر من التروى لمعرفة المغزى من الموقف الذى اتخذته احتراما لنفسها ولضميرها المهنى، طلبت منها الصحيفة التى تعمل بها إعداد تقرير من القاهرة، ترصد فيه المشاعر الإنسانية لأهالى الضحايا، بهدف استثمار الحزن فى لحظات الغضب والانفعال الناتجة عن سقوط الطائرة، على أن يتضمن تقريرها اتهامات بحق شركة «مصر للطيران» المالكة للطائرة، من حيث كفاءة المطارات والتشكيك فى منظومة الأمان بالشركة.
انحازت الصحفية إلى ضميرها فى أداء رسالتها المهنية، ورفضت تنفيذ ما أوكل إليها ولو بالتلميح بمسئولية «مصر للطيران» عن الحادث، باعتبار أن سبب سقوط الطائرة من وجهة نظرها غير معلوم، كما رفضت بصورة قاطعة، التعامل مع التكهنات التى تؤدى نتائجها إلى إدانة الدولة المصرية، اعتمادا على هرتلات المهووسين بالإفتاء والمتربصين دوما بنظام الحكم، أى نظام حكم، دون تفرقة بين معارضة النظام والسعى لإدانة الدولة. الصحفية فعلت ذلك وهى تعلم أنها ستدفع ثمن جرأتها، فصدر قرار بفصلها، التزمت الصمت ولم تتاجر بموقفها، لم تعتصم، احتجاجا على ما جرى، اكتفت فقط بكتابة الحقيقة على صفحتها الشخصية، وأوردت خلال كلمتها أنها لم تعد مراسلة لصحيفة «لاسوار» اعتبارا من أول أمس الجمعة.
لو تركنا الجانب المثالى المرتبط بضمير الصحفية، وذهبنا إلى الجانب الآخر من نفس القصة، وهو المرتبط بإدارة الصحيفة الفرنسية، سنكتشف أننا نقف أمام أنفسنا عرايا، لا تسترنا الكلمات الزائفة التى نتغنى بها عن الوطنية، وغير ذلك من المصطلحات الجوفاء، فإدارة الصحيفة تعى ما تفعل، وتعى أن فرنسا طرفا رئيسيا فى قضية الطائرة، لذا فهى تريد إبعاد أى شكوك تخص الأمان فى مطارات بلدها فى إطار المسئولية الوطنية للإعلام والصحافة، أما فى مصر فلا شىء يهم على الإطلاق، ترتدى وسائل الإعلام لدينا ثياب المعارضة لإرضاء فئات بعينها، إن لم يكن الهدف هو السير فى ركابها، تجلى هذا كله عبر توجيه الاتهامات غير المسئولة للسلطات المصرية فى إطار تحميلها المسئولية عن كل ما يجرى، دون دراية بتداعيات ما يتم نشره فى الصحف أو بثه فى وسائل الإعلام المرئية. كما تكشف القصة أيضا عن بعض الأمور التى يتم تجاهلها عمدا فى مقدمتها، كم مراسلا أجنبيا يعملون فى مصر لصالح سياسات غير نظيفة بالمرة؟