يكمل هيكل تفاصيل رحلة موسكو قائلًا:
وشهدته في مراسم الاستقبال الرسمى في مطار «نينوكفو»، وأنا أعلم كم يكلفه الوقوف والمشى، وظلت سيطرته كاملة على آلامه، حتى وصل إلى قصر الضيافة، وأجرى اجتماعًا تمهيديًا مع الزعماء السوفييت، وتمشى معهم في حديث ودى في حديقة قصر الضيافة الواقع على ربو تلال ليننى. وكان برجنين يريه لأول مرة أشجار الكريز. ثم صعد إلى غرفة نومه وخلع ملابسه وتمدد على السرير، رافعًا قبضة إرادته القوية عن آلامه الشديدة الصلبة.
وكنا معه في الغرفة ثلاثة، أنور السادات والشهيد عبدالمنعم رياض وأنا، وجاء طبيبه الخاص وتركناه معه قليلًا، وخرجنا إلى غرفة المكتب الملاصقة لغرفة النوم في جناحه. وعبدالمنعم رياض يقول لي: كيف تركناه حتى تصل به الآلام إلى هذه الدرجة، إنه واحد في الدنيا كلها لا أطيق أن أراه يتألم. وذهب إلى مستشفى بربينى، وأجرى له كشف كامل، وعاد من المستشفى ومعه أنور السادات، الذي بادرنى قائلًا: المسألة بسيطة. قاطعه الرئيس عبدالناصر: أنور، سوف نقول الحقيقة، يجب أن يعرف هو الآخر!. ثم مضى يقول: لقد وجدوا أن هناك تصلبًا في شرايين الساق، من أثر مضاعفات السكر. ثم استطرد ضاحكًا: ليس هذا أسوأ شيء، أسوأ شيء أنهم طلبوا منى الامتناع عن التدخين إلى الأبد، لقد أطفأت آخر سيجارة أمام الطبيب، ووعدته ألا أشعل غيرها بعد ذلك. واستطرد يقول باسمًا: وكأننى عندما أطفأت آخر سيجارة، ودعت صديقًا عزيزًا علىّ، كانت السجائر هي الترف الوحيد الذي أستمتع به، والآن منعت هي الأخرى! وسألت عن العلاج، قال: طلبوا منى أن أعود في ظرف أسبوعين للعلاج بالمياه الطبيعية في بلد اسمه «تسخا لضوبو» في جورجيا، ثم أدوية جديدة وأخيرًا النصائح التقليدية عن ساعات العمل المحدودة والإجازات المتكررة. يقول هيكل: وعاد إلى القاهرة، وحضر المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى، ورتب نتائج محادثاته في موسكو، ثم ذهب إلى «تنس الطوبر» لثلاثة أسابيع من العلاج الطبيعى، ثم عاد إلى مصر لأسبوعين قضاهما في الإسكندرية. ولم تكن الآلام قد زالت.
بل إن بعضها اشتد، وكان ذلك ما توقعه الأطباء السوفييت، كرد فعل للعلاج بالمياه الطبيعية المشعة، وكمقدمة لا بد أن يجيء بعدها التحسن التدريجى. وأذكر يومًا في تلك الفترة، وكنت قد ذهبت إلى زيارته في الإسكندرية وسألته في الآلام. فقال: لم يظهر التحسن بعد، ولكن الأطباء يقولون إنه سيحدث. وسكت قليلًا، ونظره على أمواج البحر المترامى، أمام شرفة استدامة المعمورة التي كنا نجلس فيها وحدنا. ثم عادت نظراته إلىّ، وهو يقول: إننى أفكر جديًا في قرار أريد أن أناقشه معك. وانتظرت ساكتًا ليكمل حديثه. فاستطرد: إذا لم تذهب هذه الآلام، فكيف أستطيع أن أواصل العمل في هذه الحالة سوف أعتزل، هل تجد أمامى سبيلًا آخر؟! حكمت بسذاجة ألوم نفسى عليها الآن. لو استطعنا فقط تنظيم عملك، لتمكنت أن تريح نفسك ولو قليلًا. قال هو: إننى لا أتحدث عن نفسى، ولكن أتحدث عن «البلد»، كيف أستطيع أن أقوم بكل ما يجب علىّ القيام به، وأنا متعب ليس ذلك عدلًا بالنسبة للقياس. واستطرد: شيء واحد يمنعنى، أخشى أن يفسر ذلك في العالم العربى. أو هناك في العالم الخارجى، بأننى يائس من احتمالات النصر، وذلك عكس اعتقادى، قلت له: أليس الأفضل أن ننتظر التحسن الذي يتوقعونه، قبل التفكير في مثل هذا القرار؟ قال وهو يهز رأسه: ننتظر! ويمضى هيكل في رواية رحلة عبدالناصر مع المرض والآلام فيقول: في بداية سنة ١٩٦٩، كانت الآلام قد خفت كثيرًا عن ذى قبل كما كان يتوقع الأطباء، وكان الرأى السائد بينهم. هو أن هذه الآلام سوف تختفى تمامًا. إذا عاد مرة ثانية في صيف ١٩٦٩. وكان هو مقتنعًا تمامًا بالذهاب في الموعد المحدد أغسطس ١٩٦٩. وكان ربيع ١٩٦٩، وصيفها من أكثر الفترات عملًا وانشغالًا في حياته، خصوصًا بالنسبة للقوات المسلحة، وراودته أحلام الجبهة الشرقية في تلك الفترة وأعطى جهدًا كبيرًا لها، وجاهد في مناقشات ميزانية تلك السنة لتعود التنمية غير متأثرة إلى أقصى حد ممكن بمطالب المجهود الحربى. وركز تركيزًا كبيرًا على ضرورة الانتهاء من السد العالى تمامًا في يوليو سنة ١٩٧٠. وفى ربيع وصيف سنة ١٩٦٩ كانت معارك المدفعية قد بدأت، وبدأت عمليات العبور الجسورة، وكان يتابعها ليلة بليلة، ويعرف اسم كل مجموعة ويسأل قبل أن ينام عن عودتهم وعن الخسائر فيهم. ثم أعلن بدء حرب الاستنزاف في يوليو سنة ١٩٦٩ واشتدت المعارك على الجبهة المصرية، ثم تأثر بطريقة لا يمكن أن يتصورها أحد لحريق المسجد الأقصى، وحين طرح أمامه في تلك الظروف موعد زيارته الثانية إلى تنس الطوبر لكى تنتهى الآلام، أشار بتأجيل الموعد إلى شهر سبتمبر، حتى تكون الظروف قد تكشفت. ومع أن الآلام بدأت تعود إليه حارة مرة أخرى بعد سنتين من أثر العلاج الطبيعى، فإنه لم يتعجل الذهاب للمرة الثانية، لأنه كما قال للدكتور منصور فايز وللدكتور الصاوى حبيب: لا أستطيع أن أترك أولادنا هنا يموتون، وأذهب أنا للعلاج في موسكو. وكانت أزمة في بعض الأيام لا تحتمل. كان الألم يستحكم إذا مشى أكثر من عشر دقائق، وإذا جلس ثابتًا في مكانه أكثر من ساعة. وكان يمشى بدون حساب للدقائق، وكان يجلس ثابتًا في مكانه بدون حساب للساعات! ومع ذلك فإن أي عناء لم يستطع أن يحجب ابتسامته الدائمة للناس، وسعادته الغامرة حينما يكون وسطهم! ولم يستطع العناء أيضًا أن يقيد روحه المرحة، وقدرته الدائمة على أن يرى الناحية المشرقة في كل الأشياء والأحداث! ويكمل هيكل القصة الحزينة: وجاء يوم ١١ سبتمبر ١٩٦٩، كان قد حدد موعدًا لسفره إلى تنس الطوبر بعد أيام. وكان مقررًا أن يجرى الدكتور الصاوى عليه كشفًا عامًا، ليعد تقريرًا كاملًا قبل السفر، وفى صباح ذلك اليوم، كان يشعر بإرهاق شديد مصحوبًا بنوع من الدوار، ولذلك فقد دعا الدكتور الصاوى ليكشف عليه، قبل الموعد الذي كان محددًا للفحص الشامل بعدة ساعات. وكان يقول دائمًا للدكتور الصاوي: إنك لا تستطيع التحكم في ملامحك يا دكتور، وأنا أرى نتيجة الكشف على ملامحك قبل أن تخبرنى بها. ولأول مرة في ذلك اليوم، فإن الدكتور الصاوى لم يرد. لأن المفاجأة كانت كبيرة بالنسبة له. لقد اكتشف فجأة والتمائم موجودة على صدر عبدالناصر، أنه يسمع ما يسمونه في طب القلب، «الصوت الثالث»!. هناك إذن طارق جديد ألم بالقلب! وتمالك الدكتور الصاوى نفسه، وقال: سيادة الرئيس، أرى أن تقوم بعمل رسم للقلب، يكون معنا ونحن في موسكو!. وأجرى رسم القلب، وخرج الدكتور الصاوى بالجهاز يقرأ نتيجة الرسم، خارج غرفة نوم عبدالناصر. وذهل لما رأى! دون أن يعلم غير عدد قليل للغاية من المحيطين به، عاش الرئيس جمال عبدالناصر رحلة صراع مع الآلام والمرض، كان ذلك عام ١٩٦٩، والذي كان عامًا مصيريًا، شهدت مصر فيه حرب الاستنزاف، ووقوف القوات المسلحة المصرية من جديد على الأقدام. وكان الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل أحد هؤلاء الذين لمسوا وعاشوا عن قرب ملحمة صراع عبدالناصر مع الآلام. كان قد أصيب بتصلب في شرايين الساق اليمنى بسبب مرض السكر، وكان يعانى آلامًا مبرحة إذا مشى قليلًا أو إذا جلس طويلًا: ورغم ذلك فإن عبدالناصر حافظ بإرادة صلبة على ابتسامته المعهودة وطبيعته المرحة. وكان يبتسم، وهو يمشى فوق الآلام!. وقبل أن يسافر للعلاج مرة أخرى إلى «تنس الطوبر» بالاتحاد السوفيتى، بعد أن اتضحت الآلام، طلب طبيبه الصاوى حبيب، الذي فحصه وأجرى له رسم قلب، وذهل الطبيب عندما شاهد رسم القلب الذي أجراه للرئيس، ويحكى هيكل ما حدث قائلًا: ولم يصدق الدكتور الصاوى عينيه، لكن الدليل كان مرسومًا أمامه، هناك صورة جلطة وانسداد في فرع الشريان الأمامى للقلب!.