الخميس 26 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

اليوم الأخير في حياة عبدالناصر.. مصارعة الألم "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل من أقرب الناس إلى الرئيس جمال عبدالناصر.
وعاش هيكل مع عبدالناصر منذ بداية الثورة وحتى رحيل عبدالناصر صديقًا مخلصًا ورفيقًا ملهمًا.. في كل وقت.. وطوال الوقت.
ولا بد أن هيكل قد بذل جهدًا كبيرًا لكى يستطيع أن يكتب عن «نهاية عبدالناصر»! 
لكنه في النهاية كتب القصة الحزينة.. بعد شهر من رحيل عبدالناصر.. 
وقال هيكل فيها:
«لقد كان شعورى غريبًا خلال ساعات الرحيل الحزينة..
كيف رحل.. ولم ارحل معه؟
هذه هي السفرية الأولى التي يذهب فيها ولا أكون في رفقته! 
ولم أستطع لفترة طويلة أن أعزى نفسى، بأن ذلك لم يكن اختيارًا أراده هو.. وإنما المقادير هي التي فرضتها عليه وعلىّ.
وظللت أيامًا أقنع قلبى كالأطفال عندما يغيب أحبابهم «أنه سافر» خصوصًا تلك الأيام الثلاثة.. التي انقضت بين لحظة الرحيل.. وبين اللحظة التي هجع فيها على مثواه الأخير، كفنًا أبيض طاهرًا، فوق فراش من الرمال، في قبر أقيم على عجل، خلف مسجد بناه بنفسه.. محبة في الله.. وحبًا للمؤمنين.
لماذا أنكرت الحقيقة بالقلب كالأطفال عندما يغيب أحبابهم؟
وكان يجب أن أكون أول مستسلم أمامها. لأنى عشتها معه في البداية إلى النهاية؟».
ومضى هيكل - أقرب الناس إلى عبدالناصر - يروى القصة ويكتب عن نهاية ناصر قائلًا: 
لقد كنت أعرف ما به.. وكنت شاهدًا على ملحمته الرائعة في الصراع مع الأيام.. وأظن أنه صراع مع الألم سوف يبقى أنبل معاركه، لأنه ذروة المأساة في قصة البطل!
ولقد كنت قريبًا منه. أسمع تلميحاته عن النهاية، ولا أعرف كيف ضاع منى الفهم الصحيح لمعانيها؟
لقد كنت بجوار فراشه لحظة الرحيل.. وأحسست بذلك المزيج المخيف من الحزن والهزيمة معًا.. الحزن لرحيله وحده.. والهزيمة لأن الموت انتصر علينا جميعا.. بينما بعضنا يحاول بالعلم.. وبعضنا يحاول بالصلاة.. وبعضنا يحاول بالدموع!.
إحساس لم أجربه من قبل.. إلا خلال تلك الأيام السوداء من يونيو ١٩٦٧ ويومها كنا معًا في ذلك الإحساس.. لكن هذه المرة لم يكن معنا بقدرته الخارقة على التشجيع والإلهام.
إن ملحمة صراعه مع الألم بدأت سنة ١٩٥٨.
بعد حرب السويس.. وبعد المؤامرة على سوريا.. وبعد الوحدة وبعد ثورة العراق وسقوط حلف بغداد.
اكتشف الأطباء أن لديه مرض السكر.. وكتب الأطباء تقريرًا عن حالته يقولون فيه: 
إن المرض يمكن السيطرة عليه.. ولا بد من السيطرة عليه. وذلك يقتضى ضبط ثلاثة عناصر رئيسية في طريقة حياته.
ضبط الطعام.
وضبط المجهود.
وضبط الانفعالات.
وقرأ التقرير.. 
ووضع علامة الموافقة على البند الأول مما يطلبون ضبطه، وهو الطعام وترك البندين الباقيين بدون إشارة إلى رأيه فيهما!.
وطلب أطباؤه موعدًا معه لمناقشته.
وجلس معهم كأنه يبحث أي مشكلة مما يواجهه كل يوم يقرر فيها الممكن والمستحيل. ويحاول بإرادته التوفيق بينهما.
وقال للأطباء وهو يمسك بالتقرير..
وبالنسبة لضبط الطعام ممكن بشرط واحد.. هو ألا يمتد المنع إلى الجبنة البيضاء.
وكانت الجبنة البيضاء أكلته المفضلة.. ولم يخرج من مصر في رحلة إلا وكانت في الطائرة صفيحة من الجبنة البيضاء.. وكانت مآدب العشاء الفاخرة تقام له في قصور الدولة حيث يذهب.. وكان يتظاهر بأكل بعض ما هو موضوع أمامه.. أما عشاؤه الحقيقى.. كان حين يعود بعد الرسميات إلى جناحه.. ثم يطلب الجبنة البيضاء والخبز الجاف!.
ورضى حين قال له الأطباء إن الجبنة البيضاء.. لن تكون ضمن المحظورات، فتمت الموافقة على بند ضبط الطعام.
وانتقلت المناقشة إلى البندين الآخرين في التقرير.. ضبط المجهود وضبط الانفعالات.
وقال لهم الرئيس عبدالناصر في بساطة: كيف لى أن أسيطر على المجهود والانفعالات.. هذه حياتى كلها!.
ثم وعدهم في النهاية أن يحاول..
لكنهم كانوا يرون بعيونهم أنه لا يحاول! 
وجاءت انتكاسة الثورة في العراق..
ثم مشاكل الوحدة.. ثم ثورة الاشتراكية. ثم ضربة الانفصال.. وأعتقد أنها وقعت أيضًا ٢٨ سبتمبر نفس يوم رحيله بتسع سنوات.. ثم مواجهة آثار الانفصال في مصر وفى العالم العربى. ثم حرب اليمن.. ثم خطط التنمية المتلاحقة ومنجزاتها ومشاكلها.
ثم هموم الانحرافات.. وكانت قد بدأت تضايقه بشدة سنة ١٩٦٥ و١٩٦٦.. ثم جاءت مؤامرة العدوان سنة ١٩٦٧.. ثم الهزيمة في معارك الأيام الستة ثم يومى ٩ و١٠ يونيو بانفعالاتهما المضنية..
وخلال ذلك كله كانت مضاعفات السكر - بغير أي محاولة لضبط المجهود أو ضبط الانفعالات - تزداد، وحين أجرى عليه كشف عام يوم ١ يوليو سنة ١٩٦٧. فإن الأطباء. وأولهم طبيبه الخاص الصاوى حبيب.. أحسوا بالخطر! وكانت مضاعفات السكر قد أحدثت تأثيرها في شريان القدم اليمنى.
وكانت هناك في أعصاب الساقين مسببة لآلام شديدة.. 
لكنه لم يكن مستعدًا أن يسمع من أحد! 
فقد كان عمله كله في عملية إعادة بناء القوات المسلحة.. وفى عملية ترتيب الجبهة الداخلية والجبهة العربية.
كان يمشى في طريقه.. وكان يدوس على كل الآلام! 
ويكمل هيكل بقية قصة صراع عبدالناصر مع المرض فيقول: 
وفى يوليو سنة ١٩٦٨.. 
وكان على موعد لسفر إلى موسكو.. واقترح عليه الأطباء أن تكون تلك فرصة.. يدرس معهم الأطباء السوفيت فيها حالته.
وفوجئت بشدة آلامه وأنا جالس أمامه في الطائرة المسافرة إلى موسكو.. كانت تطورات الحوادث في مصر في بداية سنة ١٩٦٨ قد شغلتنا جميعًا عن حالته الصحية.. لكنى روعت حين وجدته في الطائرة لا يستطيع الجلوس في مقعده من شدة الألم! 
وفرش له الأطباء سريرًا في الجزء المخصص له في مقدمة الطائرة.. 
وكنت أحاول أن أخفى الانزعاج.. ولكنه لمح آثاره..
فقال برقة لم يكن يستطيعها غيره: سوف أنام بعض الوقت.. وحين أستيقظ سوف يكون الألم أخف! 
وجلسنا بجواره.. 
أنور السادات وأنا على كرسيين متواجهين في الطائرة.. وكنا ساكتين لنعطيه فرصة للنوم.. ولكن نظرات عيوننا لم تكن ساكتة! 
واستيقظ.. وكانت الطائرة فوق بولندا..
وعاد إلى كرسيه معنا لكننا لم نشعر أن آلامه قد خفت حدتها.
وحاول هو تغيير الموضوع..
فقال لي: اطلب ياسر عرفات ليجىء فيجلس معنا هنا بعض الوقت.. حتى لا يشعر بالغربة مع بقية أعضاء الوفد من ركاب الطائرة. وكان ياسر عرفات معنا على الطائرة ذاهبًا إلى موسكو.. ولم يكن يعرف بوجوده على الطائرة أحد.. ولا كان أحد في العالم قد سمع باسمه بعد.. ولكن جمال عبدالناصر أراد أن يأخذه معه إلى موسكو.. ليفتح للمقاومة الفلسطينية بابًا يكون لها مصدر سلاح. 
وحين جاء ياسر عرفات وجلس بجواره.. كان هو قد سيطر تمامًا بإرادته القوية على آثار الألم ومظاهره على ملامحه.