في لحظة الموت هذه..
اندفعت السيدة قرينة عبدالناصر إلى حجرة النوم.. وأسرعت إلى فراشه.. وأمسكت بيد رفيق العمر الذي رحل، وأخذت تقبلها وتغمرها بدموعها التي تمزق القلوب! وأسرعت هدى عبدالناصر إلى الغرفة ومعها شقيقتها منى.. وخلفهما دخل خالد وعبدالحكيم. الوحيد الذي لم يكن موجودًا هو عبدالحميد.. الذي كان ضابطًا بالكلية البحرية، وكان مقر عمله في الإسكندرية. لكنهم استدعوه للعودة بالطائرة إلى القاهرة. وبدأ الموجودون يغادرون الغرفة في ذهولهم.. ليتركوا الأسرة في لحظات الوداع الأخير. وذهبوا إلى غرفة المكتب المجاورة مباشرة لغرفة نوم عبدالناصر، يحاولون استيعاب الموقف، وأصوات أسرة عبدالناصر تصل إلى آذانهم. وطلب منهم أنور السادات أن يعقدوا في الحال اجتماعًا في صالون البيت. وفى الصالون اجتمعوا: أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى وشعراوى جمعة، والفريق محمد فوزى وسامى شرف وهيكل. وانتهى الاجتماع بالاتفاق على دعوة اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكى العربى ومجلس الوزراء، إلى جلسة عاجلة لإعلان الخبر المروع، وبحث الإجراءات المفروض اتخاذها، وذلك بعد أن اتفقوا على إعلان حالة الطوارئ القصوى في الجبهة تحسبًا لأى أحداث طارئة. واتفق الجميع على نقل جثمان الرئيس جمال عبدالناصر، وأن يكون تشييع الجنازة في العاشرة من صباح يوم الخميس. لإتاحة الفرصة أمام ملوك ورؤساء العالم، من أصدقاء عبدالناصر للاشتراك في وداعه الأخير. وجاءت قرينة الرئيس عبدالناصر لتطلب من حسنين هيكل.. ومن خلفها وقف خالد عبدالناصر وعبدالحكيم عبدالناصر وحاتم صادق، يحاولون قدر إمكانهم التخفيف عنها.. وكانت لحظات حزينة.. وقالت قرينة الرئيس عبدالناصر لهيكل: لا أريد شيئًا.. لم أرد في حياتى غيره.. لم يكن بالنسبة لى رئيسًا للجمهورية.. كان زوجى.. وليس لى من أمل في الدنيا غير أن أدفن إلى جانبه!. ولم يكن أحد من الحاضرين يستطيع تحمل هذا المشهد، أو هذه الكلمات. كانت الدموع تغرق كل العيون.. وفى صمت حزين جاءت سيارة الإسعاف الخاصة بالرئيس ليركبها لأول مرة في حياته، جثمانًا بلا حياة! وقام رفاق السلاح بالمهمة الأخيرة للصديق البطل.. رفعوا جثمانه من على فراشه، حيث سجى على نقالة الإسعاف. وهبطوا درجات سلم البيت الداخلى، وهم يحملونه عليها حتى سيارة الإسعاف! وانطلقت السيارة إلى القصر الجمهورى بالقبة.. وهناك وضع الجثمان في عيادة القصر.. وتقرر أن يجرى غسل الجثمان ثم الصلاة عليه في مسجد القصر. وبعدها أعيد النعش إلى العيادة.. انتظارًا لموعد تشييع الجنازة. وكانت ليلة حزينة في القصر الجمهورى.. الذي امتلأ بكبار رجال الدولة ورجال الثورة والوزراء. الذين كان عدد منهم في ذلك اليوم في زيارة خاصة للجبهة وتم استدعاؤهم على عجل بالطائرة. وتحدث أنور السادات.. وقال في حزن إنه كان يتمنى ألا يعيش هذا اليوم، وأن ينعاه جمال عبدالناصر، ولا يقوم هو بنعى جمال عبدالناصر!. ولم يتحمل الدكتور عزيز صدقى الكلمات وأجهش بالبكاء.. وغادر السيد مرعى القاعة والدموع في عينيه.. بينما كان الفريق محمد فوزى يمسح دموعه التي سقطت في صمت حزين. ودُعى الأطباء لكتابة تقريرهم الطبى عن الوفاة وسببها. وتم الاتفاق على أن يذيع أنور السادات نائب رئيس الجمهورية البيان عن الفاجعة. وقطعت الإذاعة والتليفزيون برامجهما العادية.. وبدآ في إذاعة تلاوة القرآن الكريم. لم تكن تلك هي النوبة القلبية الأولى التي تصيب جمال عبدالناصر! كان في سبتمبر أيضًا في العام السابق قد تعرض لنوبة قلبية. لكن يومها وحرصًا على الاكتفاء بأشياء كثيرة، تم الاتفاق على الإعلان عنها بأنها نوبة أنفلونزا. وإثر تلك النوبة الأولى قضى جمال عبدالناصر ستة أسابيع في الفراش. ونصحه الأطباء بعدم إجهاد نفسه.. لكن جمال عبدالناصر كان شخصية عنيدة مقاتلة، فما أن نهض من فراشه، بعد انتهاء الأسابيع الستة، حتى أغرق نفسه في العمل الشاق. ولم يمكن لعبدالناصر أن يتغافل عن الظروف السياسية والعسكرية التي كانت مصر تعيشها وأيضًا العالم العربى. وسافر جمال عبدالناصر إلى الاتحاد السوفيتى.. وهناك فحصه طبيب القلب الروسى الشهير «شازوف».. وقال له «شازوف»: سيدى الرئيس.. إننى أتابع من بعيد برامج عملك.. وأعرف أنك كنت أخيرًا في ليبيا وفى السودان.. وأعرف أنك تعمل أكثر من أربع عشرة ساعة في اليوم.. واسمح لى سيدى الرئيس أن أقول إن هذا خطر عليك.. وإننى أحذرك من استمرار هذا الوضع! لكن عبدالناصر لم يكن يهتم بصحته كثيرًا.. وكان في ذهنه أشياء تشغله عن الاهتمام بنفسه.. الوضع المصرى بعد ٦٧.. والوضع العربى الذي كان يتدهور باستمرار. لكنه بعد إلحاح طويل من الأطباء الروس.. وافق على أن يدخل مصحة «برينى» لأسبوعين من العلاج المنظم، على أن يلتزم بعد ذلك بمواعيد عمل ثابتة ومحدودة. لكن عبدالناصر لم يلتزم بنصائح وتحذيرات الأطباء! وما أن عاد إلى القاهرة حتى انغمس في العمل الشاق المستمر.. واللقاءات والاجتماعات التي لا تنتهي! ولم يرض كل من حول عبدالناصر ويعرفون حقيقة مرضه وصحته بذلك.. فألحوا عليه كثيرًا.. حتى وافق أخيرًا على أن يذهب في إجازة إلى مرسي مطروح! وسافر عبدالناصر بالفعل إلى مرسي مطروح.. لكن الإجازة انتهت في نفس يوم وصوله إليها!. فقد انفجرت في نفس اليوم أزمة الأردن والمقاومة الفلسطينية.. وطار إليه من ليبيا في نفس اليوم معمر القذافى. وقطع عبدالناصر في صباح اليوم التالى إجازته التي لم ينعم بها وعاد إلى القاهرة.. من أجل مؤتمر الملوك والرؤساء العرب. وكان عبدالناصر في حالة نفسية سيئة بسبب نزيف الدم العربى في الأردن. وبذل جهدًا كبيرًا في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب لوضع حد لهذه الكارثة. وعندما طلب منه بعض الأصدقاء أن يراعى الجهد الخرافى الذي يبذله في المؤتمر. قال لهم: هناك رجال ونساء وأطفال يموتون.. نحن في سباق مع الموت!. وطوال تسعة أيام ضغط عبدالناصر على جهده وأعصابه وفكره.. لوقف النزيف في الأردن.. وإتاحة الفرصة للمقاومة الفلسطينية حتى توقيع اتفاق القاهرة. وفى ليلة انتهاء المؤتمر.. غادر عبدالناصر فندق هيلتون - مقر المؤتمر - في نحو الساعة العاشرة مساءً بعد توقيع الاتفاق. وكان لحظتها يشعر بإجهاد شديد.. لكن في نفس الليلة.. قام بتوديع معمر القذافى وقضى بقية الليلة حتى الفجر يتابع عمل لجنة الرقابة، التي كانت قد سافرت إلى الأردن برئاسة السيد الباهى الأدهم. وكان حريصًا على توفير كل الضمانات لتحقيق الهدف.. ووضع الاعتمادات المالية اللازمة تحت تصرف اللجنة.. وتوفير معدات اتصالات لاسلكية لها مع القاهرة.. وانتهت الليلة العصيبة. وبزغ نهار اليوم الأخير في حياة جمال عبدالناصر!
اليوم الأخير في حياته..
كان على عبدالناصر أن يودع الملوك والرؤساء الذين سوف يغادرون القاهرة.. وفى الساعة الثانية عشرة صباحًا اتصل محمد حسنين هيكل ليسأله عن آخر التطورات، بعد اجتماعه مع ياسر عرفات وزعماء المقاومة الفلسطينية.. وفى نهاية المكالمة.. قال له الرئيس جمال عبدالناصر: إننى أشعر بتعب شديد.. ولا أحس أننى قادر على الوقوف على قدمي! وقال له هيكل: الوقت قد حان لإجازة. ضحك جمال عبدالناصر.. وقال لهيكل: سوف أضع قدمى في ماء ساخن به ملح.. وسوف أشعر براحة بعدها! رد عليه هيكل: الجهد كان كبيرًا. وما زلت سيادتكم في حاجة إلى إجازة وأقترح أن تقضى بضعة أيام في الإسكندرية. قال له جمال عبدالناصر: بعد قليل سأذهب لوداع أمير الكويت وأعود بعدها لأنام!
وصمت عبدالناصر برهة.. ثم استطرد قائلًا: أريد أن أنام نومًا طويلًا.. ولن أستطيع أن أستريح في الإسكندرية.. أريد يومًا أو يومين من النوم هنا.. وبعدها أفكر في الذهاب إلى الإسكندرية. وانتهت مكالمة عبدالناصر مع هيكل.. ولم يسترح بعدها طويلًا، فما لبث أن غادر البيت في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا إلى مطار القاهرة. وهناك شعر بالتعب بعد توديع أمير الكويت. وطلب أن تحضر إليه سيارته حيث يقف على أرض المطار.. وكان وصل إلى البيت.. وهو في طريقه إلى حجرة نومه.. حتى سأل عن السيدة قرينته.. وسألها: هل تغديتي؟ قالت له: كنت في انتظارك! قال لها: أشعر أننى لا أستطيع أن أضع في فمى شيئًا! ظلت معه حتى خلع ملابسه واستلقى على الفراش. وشاهدته يدق الجرس ويطلب الدكتور الصاوى طبيبه المقيم. وغادرت قرينة الرئيس الغرفة فور حضور الدكتور الصاوى.
وكانت النهاية..
نهاية حياة مصرى عظيم!
اندفعت السيدة قرينة عبدالناصر إلى حجرة النوم.. وأسرعت إلى فراشه.. وأمسكت بيد رفيق العمر الذي رحل، وأخذت تقبلها وتغمرها بدموعها التي تمزق القلوب! وأسرعت هدى عبدالناصر إلى الغرفة ومعها شقيقتها منى.. وخلفهما دخل خالد وعبدالحكيم. الوحيد الذي لم يكن موجودًا هو عبدالحميد.. الذي كان ضابطًا بالكلية البحرية، وكان مقر عمله في الإسكندرية. لكنهم استدعوه للعودة بالطائرة إلى القاهرة. وبدأ الموجودون يغادرون الغرفة في ذهولهم.. ليتركوا الأسرة في لحظات الوداع الأخير. وذهبوا إلى غرفة المكتب المجاورة مباشرة لغرفة نوم عبدالناصر، يحاولون استيعاب الموقف، وأصوات أسرة عبدالناصر تصل إلى آذانهم. وطلب منهم أنور السادات أن يعقدوا في الحال اجتماعًا في صالون البيت. وفى الصالون اجتمعوا: أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى وشعراوى جمعة، والفريق محمد فوزى وسامى شرف وهيكل. وانتهى الاجتماع بالاتفاق على دعوة اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكى العربى ومجلس الوزراء، إلى جلسة عاجلة لإعلان الخبر المروع، وبحث الإجراءات المفروض اتخاذها، وذلك بعد أن اتفقوا على إعلان حالة الطوارئ القصوى في الجبهة تحسبًا لأى أحداث طارئة. واتفق الجميع على نقل جثمان الرئيس جمال عبدالناصر، وأن يكون تشييع الجنازة في العاشرة من صباح يوم الخميس. لإتاحة الفرصة أمام ملوك ورؤساء العالم، من أصدقاء عبدالناصر للاشتراك في وداعه الأخير. وجاءت قرينة الرئيس عبدالناصر لتطلب من حسنين هيكل.. ومن خلفها وقف خالد عبدالناصر وعبدالحكيم عبدالناصر وحاتم صادق، يحاولون قدر إمكانهم التخفيف عنها.. وكانت لحظات حزينة.. وقالت قرينة الرئيس عبدالناصر لهيكل: لا أريد شيئًا.. لم أرد في حياتى غيره.. لم يكن بالنسبة لى رئيسًا للجمهورية.. كان زوجى.. وليس لى من أمل في الدنيا غير أن أدفن إلى جانبه!. ولم يكن أحد من الحاضرين يستطيع تحمل هذا المشهد، أو هذه الكلمات. كانت الدموع تغرق كل العيون.. وفى صمت حزين جاءت سيارة الإسعاف الخاصة بالرئيس ليركبها لأول مرة في حياته، جثمانًا بلا حياة! وقام رفاق السلاح بالمهمة الأخيرة للصديق البطل.. رفعوا جثمانه من على فراشه، حيث سجى على نقالة الإسعاف. وهبطوا درجات سلم البيت الداخلى، وهم يحملونه عليها حتى سيارة الإسعاف! وانطلقت السيارة إلى القصر الجمهورى بالقبة.. وهناك وضع الجثمان في عيادة القصر.. وتقرر أن يجرى غسل الجثمان ثم الصلاة عليه في مسجد القصر. وبعدها أعيد النعش إلى العيادة.. انتظارًا لموعد تشييع الجنازة. وكانت ليلة حزينة في القصر الجمهورى.. الذي امتلأ بكبار رجال الدولة ورجال الثورة والوزراء. الذين كان عدد منهم في ذلك اليوم في زيارة خاصة للجبهة وتم استدعاؤهم على عجل بالطائرة. وتحدث أنور السادات.. وقال في حزن إنه كان يتمنى ألا يعيش هذا اليوم، وأن ينعاه جمال عبدالناصر، ولا يقوم هو بنعى جمال عبدالناصر!. ولم يتحمل الدكتور عزيز صدقى الكلمات وأجهش بالبكاء.. وغادر السيد مرعى القاعة والدموع في عينيه.. بينما كان الفريق محمد فوزى يمسح دموعه التي سقطت في صمت حزين. ودُعى الأطباء لكتابة تقريرهم الطبى عن الوفاة وسببها. وتم الاتفاق على أن يذيع أنور السادات نائب رئيس الجمهورية البيان عن الفاجعة. وقطعت الإذاعة والتليفزيون برامجهما العادية.. وبدآ في إذاعة تلاوة القرآن الكريم. لم تكن تلك هي النوبة القلبية الأولى التي تصيب جمال عبدالناصر! كان في سبتمبر أيضًا في العام السابق قد تعرض لنوبة قلبية. لكن يومها وحرصًا على الاكتفاء بأشياء كثيرة، تم الاتفاق على الإعلان عنها بأنها نوبة أنفلونزا. وإثر تلك النوبة الأولى قضى جمال عبدالناصر ستة أسابيع في الفراش. ونصحه الأطباء بعدم إجهاد نفسه.. لكن جمال عبدالناصر كان شخصية عنيدة مقاتلة، فما أن نهض من فراشه، بعد انتهاء الأسابيع الستة، حتى أغرق نفسه في العمل الشاق. ولم يمكن لعبدالناصر أن يتغافل عن الظروف السياسية والعسكرية التي كانت مصر تعيشها وأيضًا العالم العربى. وسافر جمال عبدالناصر إلى الاتحاد السوفيتى.. وهناك فحصه طبيب القلب الروسى الشهير «شازوف».. وقال له «شازوف»: سيدى الرئيس.. إننى أتابع من بعيد برامج عملك.. وأعرف أنك كنت أخيرًا في ليبيا وفى السودان.. وأعرف أنك تعمل أكثر من أربع عشرة ساعة في اليوم.. واسمح لى سيدى الرئيس أن أقول إن هذا خطر عليك.. وإننى أحذرك من استمرار هذا الوضع! لكن عبدالناصر لم يكن يهتم بصحته كثيرًا.. وكان في ذهنه أشياء تشغله عن الاهتمام بنفسه.. الوضع المصرى بعد ٦٧.. والوضع العربى الذي كان يتدهور باستمرار. لكنه بعد إلحاح طويل من الأطباء الروس.. وافق على أن يدخل مصحة «برينى» لأسبوعين من العلاج المنظم، على أن يلتزم بعد ذلك بمواعيد عمل ثابتة ومحدودة. لكن عبدالناصر لم يلتزم بنصائح وتحذيرات الأطباء! وما أن عاد إلى القاهرة حتى انغمس في العمل الشاق المستمر.. واللقاءات والاجتماعات التي لا تنتهي! ولم يرض كل من حول عبدالناصر ويعرفون حقيقة مرضه وصحته بذلك.. فألحوا عليه كثيرًا.. حتى وافق أخيرًا على أن يذهب في إجازة إلى مرسي مطروح! وسافر عبدالناصر بالفعل إلى مرسي مطروح.. لكن الإجازة انتهت في نفس يوم وصوله إليها!. فقد انفجرت في نفس اليوم أزمة الأردن والمقاومة الفلسطينية.. وطار إليه من ليبيا في نفس اليوم معمر القذافى. وقطع عبدالناصر في صباح اليوم التالى إجازته التي لم ينعم بها وعاد إلى القاهرة.. من أجل مؤتمر الملوك والرؤساء العرب. وكان عبدالناصر في حالة نفسية سيئة بسبب نزيف الدم العربى في الأردن. وبذل جهدًا كبيرًا في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب لوضع حد لهذه الكارثة. وعندما طلب منه بعض الأصدقاء أن يراعى الجهد الخرافى الذي يبذله في المؤتمر. قال لهم: هناك رجال ونساء وأطفال يموتون.. نحن في سباق مع الموت!. وطوال تسعة أيام ضغط عبدالناصر على جهده وأعصابه وفكره.. لوقف النزيف في الأردن.. وإتاحة الفرصة للمقاومة الفلسطينية حتى توقيع اتفاق القاهرة. وفى ليلة انتهاء المؤتمر.. غادر عبدالناصر فندق هيلتون - مقر المؤتمر - في نحو الساعة العاشرة مساءً بعد توقيع الاتفاق. وكان لحظتها يشعر بإجهاد شديد.. لكن في نفس الليلة.. قام بتوديع معمر القذافى وقضى بقية الليلة حتى الفجر يتابع عمل لجنة الرقابة، التي كانت قد سافرت إلى الأردن برئاسة السيد الباهى الأدهم. وكان حريصًا على توفير كل الضمانات لتحقيق الهدف.. ووضع الاعتمادات المالية اللازمة تحت تصرف اللجنة.. وتوفير معدات اتصالات لاسلكية لها مع القاهرة.. وانتهت الليلة العصيبة. وبزغ نهار اليوم الأخير في حياة جمال عبدالناصر!
اليوم الأخير في حياته..
كان على عبدالناصر أن يودع الملوك والرؤساء الذين سوف يغادرون القاهرة.. وفى الساعة الثانية عشرة صباحًا اتصل محمد حسنين هيكل ليسأله عن آخر التطورات، بعد اجتماعه مع ياسر عرفات وزعماء المقاومة الفلسطينية.. وفى نهاية المكالمة.. قال له الرئيس جمال عبدالناصر: إننى أشعر بتعب شديد.. ولا أحس أننى قادر على الوقوف على قدمي! وقال له هيكل: الوقت قد حان لإجازة. ضحك جمال عبدالناصر.. وقال لهيكل: سوف أضع قدمى في ماء ساخن به ملح.. وسوف أشعر براحة بعدها! رد عليه هيكل: الجهد كان كبيرًا. وما زلت سيادتكم في حاجة إلى إجازة وأقترح أن تقضى بضعة أيام في الإسكندرية. قال له جمال عبدالناصر: بعد قليل سأذهب لوداع أمير الكويت وأعود بعدها لأنام!
وصمت عبدالناصر برهة.. ثم استطرد قائلًا: أريد أن أنام نومًا طويلًا.. ولن أستطيع أن أستريح في الإسكندرية.. أريد يومًا أو يومين من النوم هنا.. وبعدها أفكر في الذهاب إلى الإسكندرية. وانتهت مكالمة عبدالناصر مع هيكل.. ولم يسترح بعدها طويلًا، فما لبث أن غادر البيت في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا إلى مطار القاهرة. وهناك شعر بالتعب بعد توديع أمير الكويت. وطلب أن تحضر إليه سيارته حيث يقف على أرض المطار.. وكان وصل إلى البيت.. وهو في طريقه إلى حجرة نومه.. حتى سأل عن السيدة قرينته.. وسألها: هل تغديتي؟ قالت له: كنت في انتظارك! قال لها: أشعر أننى لا أستطيع أن أضع في فمى شيئًا! ظلت معه حتى خلع ملابسه واستلقى على الفراش. وشاهدته يدق الجرس ويطلب الدكتور الصاوى طبيبه المقيم. وغادرت قرينة الرئيس الغرفة فور حضور الدكتور الصاوى.
وكانت النهاية..
نهاية حياة مصرى عظيم!