كثيرًا ما يشير الصديق الدكتور خالد منتصر فى كتاباته إلى العديد من نماذج الأثرياء الغربيين الذين يهبون ثرواتهم لصالح البشرية، وكيف أن قائمتهم تضم العديد من العلماء والفنانين، وكيف أن دولهم والعالم بأسره يحتفى بهم أشد الاحتفاء. القائمة طويلة تجل عن الحصر، ولكنى أتوقف أمام نماذج قليلة محددة وذلك بقصد محدد.
من منا لم يسمع بجامعة هارفارد الأمريكية أو بجامعة ماكجيل الكندية؟ من منا لم يسمع بجائزة نوبل أو بمؤسسة فورد؟
ربما يغيب عن بعضنا أن تلك المؤسسات الشهيرة تحمل أسماء من تبرعوا وأوقفوا أموالهم عليها.
جامعة هارفارد تحمل اسم مؤسسها القس البروتستانتى جون هارفارد الذى تبرع بنصف تركته و٤٠٠ كتاب من مكتبته الخاصة لتأسيسها مما ساعد الجامعة الصغيرة على أن تكبر لتصبح من أفضل جامعات العالم، ورغم رحيل جون قبل افتتاح الجامعة فقد حرص الجميع على أن تحمل اسم جون هارفارد تكريما له لتصبح أقدم وأعرق الجامعات الأمريكية، وإحدى أقدم وأفضل جامعات العالم. ولم يخطر ببال أحد أن يطلق عليها مثلا اسم المقاطعة أو المدينة التى تقع فيها.
وربما يغيب عن بعضنا أيضا أن جامعة ماكجيل تحمل اسم جيمس ماكجيل الذى كان تاجرا بارزا فى مونتريال، والذى تعود أصوله إلى اسكتلندا، حيث وجدوا فى وصيته عند وفاته، أنه قد خصّص غالبية ثروته وقطعة أرض كبيرة لتأسيس جامعة نوعية، وبدأت أبنية الجامعة باسم (جامعة ماكجيل) فى عام ١٨٢١، وما زالت تحمل اسمه حتى الآن.
ونستطيع أن نشير كذلك إلى ألفريد نوبل، الذى اخترع الديناميت فى سنة ١٨٦٧ ثم أوصى بمعظم ثروته التى جناها من الاختراع إلى جائزة نوبل التى سُميت باسمه وما زالت.
ونستطيع أن نشير أيضا إلى مؤسسة فورد التى تحمل اسم هنرى فورد الاقتصادى الأمريكى البارز، ومؤسس شركة فورد للسيارات، أول من طور صناعة السيارات فى العالم، فكان للتطور الذى أحدثه فورد أكبر الأثر على المشهد فى القرن العشرين، فلم تعد السيارات حكرا على الأغنياء، لكنها أصبحت فى متناول العمال والطبقة المتوسطة، محدثًا ثورة صناعية فى الولايات المتحدة. وفى عام ١٩٣٦، أنشأ فورد وعائلته مؤسسة «فورد» لتقديم المنح للبحث والتعليم والتنمية، وما زالت مؤسسته تحمل اسمه حتى اليوم.
أعرف أن الكثيرين منا من البسطاء والأثرياء يقدمون على فعل الخير للفقراء فى شكل هبات نقدية أو عينية، وأن قلة منهم تتبرع بإقامة مؤسسات تعليمية أو طبية أو بحثية لا تسعى للربح وتقدم خدماتها للفقراء ولغيرهم أيضا. أعرف من تلك القلة على سبيل المثال لا الحصر الدكتور مصطفى محمود الذى أنشأ صرحا طبيا ما زال قائما حتى اليوم، وأذكر كذلك الأستاذ الدكتور مجدى يعقوب الذى ترك بريطانيا التى كرمته ومنحته لقب سير لينشئ مركزا طبيا متخصصا تردد مؤخرا أننا بصدد إلحاقه بجامعة أسوان ربما لنخلصه من تحرره من الروتين، وأذكر كذلك الحاج سيد جلال الذى أقام صرحا طبيا كان يحمل اسمه ثم محونا من عليه اسم مؤسسه وحولناه ليصبح مستشفى باب الشعرية، كما لو كنا نخشى أن يجرح اسم سيد جلال مشاعر الكثير من أثريائنا فنطالبهم بمثل صنيعه.
سيد جلال مواطن مصرى من طراز فريد. اسمه بالكامل سيد جلال جيلانى مبروك العدوى، وقد استمد لقبه من قريته بنى عديات مركز منفلوط بمحافظة أسيوط والتى ولد بها فى الأول من يناير ١٨٩٩ وظل محتفظا بمقعده فى المجالس النيابية المتوالية نائبًا عن دائرة باب الشعرية والموسكى ويروى عنه أنه كان يجلس أمام لجنة الاقتراع واضعًا «طربوشه» أعلى ركبتيه، ليخرج كل ناخب أدلى بصوته لصالحه ويضع له قرشًا فى الطربوش.
بدأت عضويته بمجلس النواب عام ١٩٣٤ حيث نجح باكتساح وظل ممثلا للدائرة حتى عام ١٩٨٤ فاستحق أن يطلق عليه «شيخ البرلمانيين المصريين» وما يعنينا أن الحاج النائب سيد جلال وهو ليس طبيبا بطبيعة الحال أنشأ على نفقته الخاصة عام ١٩٤٥ مستشفى يحمل اسمه وظل المستشفى تحت إشراف وزارة الصحة يحمل اسم مؤسسه حتى عام ١٩٧٤ حين نقلت تبعيته لكلية الطب بنين جامعة الأزهر - كمستشفى جامعى. ويبدو لسبب غامض أن المسئولين آنذاك لم يرقهم اسم سيد جلال فأطلقوا على المستشفى اسم الحى الذى أنشئ فيه، رغم أن كلية الطب بجامعة عين شمس ما زالت تحتفظ باسم مستشفى الدمرداش الذى أنشأه عام ١٩٣١ السيد عبدالرحيم مصطفى الدمرداش باشا والذى يستحق أن نتوقف عنده قليلا.
السيد عبدالرحيم مصطفى الدمرداش باشا كان شيخا للطريقة الدمرداشية ومن المشتغلين بالحركة الوطنية المصرية. وقد نشرت الأهرام فى عددها الصادر يوم الأحد٥ أغسطس عام ١٩٢٨ أن صاحب السعادة السيد عبدالرحيم الدمرداش باشا دعا إلى منزله بالرمل ليلة أمس حضرات أصحاب الدولة والمعالى الوزراء وسلمهم كتابا يتضمن تبرعه بمبلغ ٥٢ ألف جنيه وتبرع كريمته (قوت القلوب الدمرداشية) بمبلغ ٥٠ ألف جنيه وزوجه بمبلغ ٥٢ ألف جنيه ومساحة من الأرض تبلغ ٥١ ألف متر مربع بشارع الملكة نازلى ليبنى عليها «مستشفى خيرى» يسع ٥٧ سريرا، على أن يقبل المستشفى جميع المرضى الفقراء مجانا بدون نظر إلى جنسياتهم أو دياناتهم، ويجوز أن يقبل مرضى من الموسرين يدفعون رسوما. وللحقيقة فإن القائمة لا تقتصر على ما ذكرنا فقد ذكرت جريدة الأهرام فى عددها المشار إليه أنه فى سنة ١٩٠٦ أنشأ الشواربى باشا مستشفاه الخيرى فى قليوب بسعة ٦٠ سريرا ثم مستشفى المنشاوى باشا فى طنطا والبدراوى باشا فى سمنود، وفى سنة ١٩٢٥ أنشأ صالح باشا لملوم مستشفى فى مغاغة يسع ٢١ سريرا وفى سنة ١٩٢٦ تبرع الشوربجى بك بدار لإنشاء مستشفى يسع ٣٠ سريرا وأنشأت المرحومة حرم المرحوم منشاوى باشا مستشفى للولادة فى العباسية يسع ٢٠ سريرا.
والسؤال الآن: ترى هل كف أثرياؤنا عن العطاء العام من مثل هذا النوع؟ .