نشهد هذه الأيام على واحدة من قنوات التليفزيون المصرى برنامجًا تقدمه الإعلامية المبدعة إسعاد يونس بعنوان صاحبة السعادة، وعرفنا مؤخرا أن دولة عربية عينت وزيرا للسعادة؛ ولعل كل ذلك يطرح من جديد قضية تضرب بجذورها بعيدا فى تاريخ البشر.
لقد أحس البشر منذ نشأتهم بتعاستهم واضطراب أمزجتهم، وتبدت لهم مظاهر ما يعانيه غيرهم من تعاسة واضطراب مزاج، وضاقوا بكل ذلك، وبما يصحبه من آلام القلق والتوتر، وسعوا ما وسعهم الجهد إلى استعادة اعتدال أمزجتهم وأمزجة المحيطين بهم.
لقد حاول البشر استجلاب السعادة والطمأنة لأنفسهم بقراءة الطالع، واستقراء النجوم، ورؤى العرافين، وسحر السحرة. كما لجأوا لمن يتوسمون فيهم طيبة وعلمًا وحكمة يلتمسون لديهم ما يخلصهم من شقائهم، أو من يقدم لهم وصفة تريحهم من عذابهم، ومن هنا كانت كلمة «الحكيم» إشارة إلى من يتصدون بالدواء أو بالكلمة المطمئنة أو بالنصيحة المرشدة لعلاج علل الجسد والنفس والعقل بل والمجتمع أيضا.
ونستطيع أن نجتهد فنصنف تلك السبل التى توصل لها البشر خلال بحثهم عن السعادة وسواء المزاج إلى سبيلين أساسيين تتفرع من كل منها سبل فرعية تزيد أو تقل، سبيل يقوم على تغيير الواقع المعاش، وسبيل يقوم على تعديل الوعى بذلك الواقع.
وليس مطروحا فى هذا المقام التعرض بالتفصيل للسبيل الأول، وهو تغيير الواقع المعاش، حيث إنه يقوم بكل تفريعاته على مسلمة مؤداها أن المصدر الأساسى لتعاسة الإنسان، إنما يكمن فى واقعه الاجتماعى وما يتضمنه ذلك الواقع من ظلم وقهر وتعسف، وأنه لا سبيل للتخلص من تعاسة الإنسان إلا بتعديل تلك الظروف المسببة للتعاسة، وغنى عن البيان أن تفصيل جهود البشر لتغيير واقعهم الاجتماعى، أمر يخرج عن النطاق المحدود لهذا المقال، وإن كان لا يمكن بحال أن يخرج عن اهتمامات علماء النفس ـ شأن غيرهم ـ كل وفق موقعه على خريطة الصراع الاجتماعى وموقفه من قوى ذلك الصراع.
ليكن حديثنا إذن عن السبيل الثانى، أعنى تغيير الوعى بالواقع. ونستطيع أن نمايز داخل هذا السبيل بين عدة اتجاهات:
أولًا: اتجاه يسعى لتعميق الوعى بالواقع تبصيرًا للفرد بالجذور الاجتماعية الاقتصادية التاريخية لمعاناته، ولما يكابده من شقاء، دفعا به إلى ضرورة السعى لتغيير ذلك الواقع لبلوغ ما يرجوه من سعادة. وغنى عن البيان أن السعادة المرجوة عن هذا السبيل، لا تتأتى فى طرفة عين بل يقتضى بلوغها مزيدا من الجهد والألم، ولكنه يكون جهدا محققا للذات، وبالتالى يكون فى حد ذاته مصدرا للسعادة والرضا، ويكاد يقتصر أصحاب هذا الأسلوب من السعى لبلوغ السعادة على دعاة التغيير الاجتماعى من القادة السياسيين والدينيين وغيرهم من المفكرين، وفى تاريخ علم النفس نماذج قليلة فريدة من علماء النفس ممن وظفوا علمهم وفنياته المتخصصة فى خلق وعى يدفع للتغيير الاجتماعى، يكفى أن نشير من بينهم إلى اجتهادات وجهود جورج بولتزر وفيلهلم رايخ وإريك فروم وغيرهم، وغنى عن البيان أن هذا الاتجاه يشترك مع السبيل الأول الذى آثرنا عدم الخوض فى تفاصيله ـ أى سبيل تغيير الواقع المعاش ـ فى التسليم بأن مصدر التعاسة يكمن فى ظروف العالم الخارجى، وإن كان أصحاب هذا الاتجاه بحكم تخصصهم يرون أن الوعى الاجتماعى هو السبيل الآمن لتحقيق تغيير حقيقى فى الواقع المعاش.
ثانيًا: اتجاه يقوم أيضا على أن منشأ التعاسة يكمن فى الواقع الخارجى، ولكن أصحاب هذا الاتجاه لا يرون سبيلا لتغيير هذا الواقع، ومن ثم فلا بد من تحمله والقبول به كما هو، فإذا ما تعذر احتمال آلامه فالسبيل الوحيد المتاح هو محاولة التدخل بتعديل الوعى لتتحقق السعادة رغم استمرار الواقع كما هو، ومن هنا عرف الإنسان خبرة تعاطى المخدرات، حيث اكتشف أن سعادته مخدر لا تقارن بتعاسته واعيا، وأن نسيانه أو تناسيه وتجاهله لمخاطر وآلام الواقع تجلب له من الطمأنينة ما لا يقارن بالعذاب والقلق الذى ينجم عن الوعى بمآسى الحاضر وبكوارث المستقبل.
ثالثًا:
اتجاه يقوم كلية على أن تعاسة الإنسان، إنما تكمن فى نظرته إلى نفسه وإلى العالم، ومن ثم تكمن السعادة فى تغيير تلك النظرة، أو بمعنى آخر فى فهم الإنسان لنفسه وللحياة فهمًا متفائلًا. ورغم ما يبدو من عدم اهتمام ذلك الاتجاه بدور المجتمع والظروف التاريخية الاقتصادية فى تعاسة البشر، فإن بريقه لم ينطفئ أبدا، وجاذبيته تتجدد دومًا.
إننا حين نلتمس عونًا نفسيًا علميًا متخصصًا للخروج من تعاسة تفوق احتمالنا، فإننا فى الأغلب نلتمس نوعًا محددًا من العون يكفل لنا بلوغ السعادة، ويجنبنا فى نفس الوقت دفع الثمن المستحق لنيل تلك السعادة المتمثل فى معاناة إحداث تغيير، ولو جزئى فى الواقع الذى ألفناه رغم أنه مصدر شقائنا. أخيرًا.. لعله غنى عن البيان أن حديثنا يقتصر على من يعانون تعاسة دون أن يدخلوا تحت مظلة «المرضى» بالمعنى الفنى للكلمة، وتظل التفرقة بين هؤلاء وغيرهم مهمة بالغة الدقة والخطورة: من هو «المريض» الذى يحتاج تدخلًا علاجيًا قد يتجاوز رؤيته بل وإرادته، ومن هو «التعس الشقى السوى» الذى يمثل غالبية من يلتمسون عونًا قد يتمثل فى كلمة تنير لهم وعيهم بأسباب لتعاستهم قد تكون خافية عليه.
لقد أحس البشر منذ نشأتهم بتعاستهم واضطراب أمزجتهم، وتبدت لهم مظاهر ما يعانيه غيرهم من تعاسة واضطراب مزاج، وضاقوا بكل ذلك، وبما يصحبه من آلام القلق والتوتر، وسعوا ما وسعهم الجهد إلى استعادة اعتدال أمزجتهم وأمزجة المحيطين بهم.
لقد حاول البشر استجلاب السعادة والطمأنة لأنفسهم بقراءة الطالع، واستقراء النجوم، ورؤى العرافين، وسحر السحرة. كما لجأوا لمن يتوسمون فيهم طيبة وعلمًا وحكمة يلتمسون لديهم ما يخلصهم من شقائهم، أو من يقدم لهم وصفة تريحهم من عذابهم، ومن هنا كانت كلمة «الحكيم» إشارة إلى من يتصدون بالدواء أو بالكلمة المطمئنة أو بالنصيحة المرشدة لعلاج علل الجسد والنفس والعقل بل والمجتمع أيضا.
ونستطيع أن نجتهد فنصنف تلك السبل التى توصل لها البشر خلال بحثهم عن السعادة وسواء المزاج إلى سبيلين أساسيين تتفرع من كل منها سبل فرعية تزيد أو تقل، سبيل يقوم على تغيير الواقع المعاش، وسبيل يقوم على تعديل الوعى بذلك الواقع.
وليس مطروحا فى هذا المقام التعرض بالتفصيل للسبيل الأول، وهو تغيير الواقع المعاش، حيث إنه يقوم بكل تفريعاته على مسلمة مؤداها أن المصدر الأساسى لتعاسة الإنسان، إنما يكمن فى واقعه الاجتماعى وما يتضمنه ذلك الواقع من ظلم وقهر وتعسف، وأنه لا سبيل للتخلص من تعاسة الإنسان إلا بتعديل تلك الظروف المسببة للتعاسة، وغنى عن البيان أن تفصيل جهود البشر لتغيير واقعهم الاجتماعى، أمر يخرج عن النطاق المحدود لهذا المقال، وإن كان لا يمكن بحال أن يخرج عن اهتمامات علماء النفس ـ شأن غيرهم ـ كل وفق موقعه على خريطة الصراع الاجتماعى وموقفه من قوى ذلك الصراع.
ليكن حديثنا إذن عن السبيل الثانى، أعنى تغيير الوعى بالواقع. ونستطيع أن نمايز داخل هذا السبيل بين عدة اتجاهات:
أولًا: اتجاه يسعى لتعميق الوعى بالواقع تبصيرًا للفرد بالجذور الاجتماعية الاقتصادية التاريخية لمعاناته، ولما يكابده من شقاء، دفعا به إلى ضرورة السعى لتغيير ذلك الواقع لبلوغ ما يرجوه من سعادة. وغنى عن البيان أن السعادة المرجوة عن هذا السبيل، لا تتأتى فى طرفة عين بل يقتضى بلوغها مزيدا من الجهد والألم، ولكنه يكون جهدا محققا للذات، وبالتالى يكون فى حد ذاته مصدرا للسعادة والرضا، ويكاد يقتصر أصحاب هذا الأسلوب من السعى لبلوغ السعادة على دعاة التغيير الاجتماعى من القادة السياسيين والدينيين وغيرهم من المفكرين، وفى تاريخ علم النفس نماذج قليلة فريدة من علماء النفس ممن وظفوا علمهم وفنياته المتخصصة فى خلق وعى يدفع للتغيير الاجتماعى، يكفى أن نشير من بينهم إلى اجتهادات وجهود جورج بولتزر وفيلهلم رايخ وإريك فروم وغيرهم، وغنى عن البيان أن هذا الاتجاه يشترك مع السبيل الأول الذى آثرنا عدم الخوض فى تفاصيله ـ أى سبيل تغيير الواقع المعاش ـ فى التسليم بأن مصدر التعاسة يكمن فى ظروف العالم الخارجى، وإن كان أصحاب هذا الاتجاه بحكم تخصصهم يرون أن الوعى الاجتماعى هو السبيل الآمن لتحقيق تغيير حقيقى فى الواقع المعاش.
ثانيًا: اتجاه يقوم أيضا على أن منشأ التعاسة يكمن فى الواقع الخارجى، ولكن أصحاب هذا الاتجاه لا يرون سبيلا لتغيير هذا الواقع، ومن ثم فلا بد من تحمله والقبول به كما هو، فإذا ما تعذر احتمال آلامه فالسبيل الوحيد المتاح هو محاولة التدخل بتعديل الوعى لتتحقق السعادة رغم استمرار الواقع كما هو، ومن هنا عرف الإنسان خبرة تعاطى المخدرات، حيث اكتشف أن سعادته مخدر لا تقارن بتعاسته واعيا، وأن نسيانه أو تناسيه وتجاهله لمخاطر وآلام الواقع تجلب له من الطمأنينة ما لا يقارن بالعذاب والقلق الذى ينجم عن الوعى بمآسى الحاضر وبكوارث المستقبل.
ثالثًا:
اتجاه يقوم كلية على أن تعاسة الإنسان، إنما تكمن فى نظرته إلى نفسه وإلى العالم، ومن ثم تكمن السعادة فى تغيير تلك النظرة، أو بمعنى آخر فى فهم الإنسان لنفسه وللحياة فهمًا متفائلًا. ورغم ما يبدو من عدم اهتمام ذلك الاتجاه بدور المجتمع والظروف التاريخية الاقتصادية فى تعاسة البشر، فإن بريقه لم ينطفئ أبدا، وجاذبيته تتجدد دومًا.
إننا حين نلتمس عونًا نفسيًا علميًا متخصصًا للخروج من تعاسة تفوق احتمالنا، فإننا فى الأغلب نلتمس نوعًا محددًا من العون يكفل لنا بلوغ السعادة، ويجنبنا فى نفس الوقت دفع الثمن المستحق لنيل تلك السعادة المتمثل فى معاناة إحداث تغيير، ولو جزئى فى الواقع الذى ألفناه رغم أنه مصدر شقائنا. أخيرًا.. لعله غنى عن البيان أن حديثنا يقتصر على من يعانون تعاسة دون أن يدخلوا تحت مظلة «المرضى» بالمعنى الفنى للكلمة، وتظل التفرقة بين هؤلاء وغيرهم مهمة بالغة الدقة والخطورة: من هو «المريض» الذى يحتاج تدخلًا علاجيًا قد يتجاوز رؤيته بل وإرادته، ومن هو «التعس الشقى السوى» الذى يمثل غالبية من يلتمسون عونًا قد يتمثل فى كلمة تنير لهم وعيهم بأسباب لتعاستهم قد تكون خافية عليه.