تُهلكنا الشعارات، وتقودنا الحناجر الزاعقة التى ما قدمت للوطن سوى عويل وهُتاف، من لافتة إلى لافتة، ومن صرخة إلى أخرى ينقاد العامة حول أصوات ميكروفونية ما قدمت سوى الكلام، الكلام المجانى الذى لا يسعى لمصلحة وطنية أو مكسب سياسى.
لا شيء فى جُعبة الستينيين سوى الكلام، لا دروب مُمهدة أمامهم نحو الغد، ولا جسور مُعلقة بين ما يقولون وبين المُستقبل، لا طموحات لحيوات أسعد لإخوانهم، لا أفكار لمشروعات صادقة، ولا مبادرات لحشد الناس حول منافع عظيمة، هُم غارقون فى الماضى، ناعسون فى سنوات الخُطب الرنانة، يواصلون كما قال نزار قبانى يوماً «حشو الجماهير قشا وتبنا، ويتركونهم يعلكون الهواء».
فى أزمة الجزيرتين استيقظت شلة عبدالناصر فجأة مولولة، صاح صائحوهم وبكت أبواقهم على التفريط فى تراب البلد، وكأنهم أُمناؤه، وكأنهم الأدرى والأعلم، تداول الزاعقون تسجيلا مُقتطعا للزعيم حول مضيق تيران ونسوا أن نظام الزعيم فرّط فى المضيق وفى غير المضيق بسياسات التهور، وشعارات الاندفاع.
ليس أصعب من أن تُختطف منك بلادك عُنوة، وليس أحزن من أن تُصدر أوامر بالانسحاب، بعد الانسحاق أمام جحافل اليهود الذين بحسب نزار قبانى فى مرثيته الرائعة للفكر الناصرى «ما دخلوا من حدودنا، وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا».
لقد كان أغرب ما مر علينا فى أزمة الجزيرتين أن بنى ناصر يصوبون سهامهم ضد الجميع موزعين اتهامات الخيانة والتفريط دون بصيص حياء مما فعله معبودهم بمصر سواء فى قيادتها نحو الهزيمة، أو فى خنق الرأسمالية الوطنية خنقاً لصالح أفكار الاشتراكية وقوالب الاتكالية وأوهام المساواة.
أليس مُدهشاً أن الحنجوريين والهتيفة الذين طالما تاجروا بالفقراء والمساكين هُم الذين افتروا على التاريخ أو الجغرافيا أو أى ثابت من أجل مكاسبهم الضيقة؟ أليس عجيبا أن يتهمنا هؤلاء الذين رأيناهم رُكعاً سُجداً أمام طُغاة العرب أمثال صدام حسين أو القذافى ببيع الأرض والتفريط فى الأرض؟
أليس مُزعجاً أن يُشككوا ويُكذبوا فى وثائق وتاريخ مصر من أجل جرجرتها لمعارك عبثية استكثاراً على المصريين من فرحة تلاقى البلدين الأعظمين فى العالم العربى؟
إنه خلق التحذلق، وادعاء الإخلاص، والمُتاجرة بالوطن التى اعتدنا عليها، ولو كان لى أن أستعير مُصطلحا من الدكتور رفعت السعيد لسميت هؤلاء بالمُتناصرين لا الناصريين لأنهم يُتاجرون بعبدالناصر وبزمنه.. والله أعلم.