تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
بقدرة قادر تحولت زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود من فرحة وبهجة وعيد إلى عاصفة جدل خطيرة حول إعادة جزيرتي "ثيران وصنافير" إلى السيادة السعودية .. ووجدنا رجل الشارع ، قبل النخبة المثقفة ، يدلي بدلوه في القضية الحدودية التي لا تشغله تفاصيلها برمتها .. فكل ما يفهمه ويحز في نفسه أن تتخلى مصر عن شبر من أرضها لصالح أي دولة أخرى ولو كانت أرض الحرمين الشريفين التي تحتل مكانة مقدسة في نفس كل مصري وعربي .
وفي محاولة لإبراء الذمة وتوضيح ما خفي عن المواطنين التقى الرئيس عبدالفتاح السيسي بصفوة من مختلف أطياف وتيارات المجتمع المصري وبذل كل ما في وسعه ليشرح للحاضرين ومعهم ملايين المتابعين حيثيات القرار وملابسات هذه الخطوة التي أدهشت الكثيرين خصوصاً على خلفية التوقيت الذي تزامن مع زيارة ملك السعودية على نحو يدفع الكثيرين للربط بينها وبين هدف الزيارة .
وحسب فهمي المحدود للغاية فإن القرار في حد ذاته لم يكن ليحدث كل هذه الضجة لو أنه سلك طريقاً غير الذي سلكه وهذا ينقلنا إلى ما يطلق عليه عملية "الإخراج السياسي" للقرارات المصيرية .. فرغم ثقة أبناء هذا الشعب الصابر الكريم في نبل الهدف الذي اتخذ من أجله والذي عبر عنه الرئيس بحرصه على عدم تكدير صفو العلاقة بين الشعبين والبلدين الشقيقين إلا أن عامل الصدمة والمفاجأة غير مسار القضية ونقلها من حسابات النوايا الحسنة والقرارات الاستراتيجية التي ليس من المفترض إطلاع الشعب على تفاصيلها إلى حسبة أخرى تماماً .
وبطبيعة الحال، أو قل كالعادة، تحولت مصر كلها إلى ساحة جدل ونقاشات أشبه بـ "فيس بوك" كبير يتم خلاله تصارع الآراء وشد الملابس ما بين المؤيدين لهذه الخطوة والمعارضين لها .. وبغض النظر عن موقفي من صحة القرار أو خطأه أسمح لنفسي أن أتجاوز هذا التساؤل إلى نقطة أخرى أراها لا تقل أهمية .
ففي تقديري الخاص أن هذا القرار كان من الجائز أن يمر مرور الكرام لو كان لدى الرئيس مستشارين في حنكة الفنان العملاق نجيب الريحاني الذي يعتبر وبحق مدرسة ليس في الفن فقط وإنما في الحياة .. فلنا أن نتخيل لو كان "الريحاني" بيننا ونتذكر المشهد التالي من الفيلم الخالد "أبوحلموس":
"حضرة المحترم مؤنس أفندي ياقوت: مرسل لكم طيه كشف بمبلغ 92 جنيه و17 قرش و3 مليم قيمة ما تم صرفه في بياض الغرفة البحرية بمنزل حارة قاوين" .
كان ذلك هو البيان الذي قرأه نجيب الريحاني فور استلامه العمل كاتبًا في أملاك أحد باشوات زمان، فتندر الريحاني قائلا: "أوضة واحدة" ليه.. بياض بلبن زبادي؟ بمربة تفاح؟ .
عندها قال الناظر الذي سمع التعليق: طيب يقيدهم ازاي؟ ودون أن يعرفه الريحاني قال "نكتب: كحت البياض القديم كذا، سنفرة الحيطان بعد الكحت: كذا، تقطيب الخروم بعد السنفرة: كذا، تمليس الحيطان بعد التقطيب كذا، ودهان أول وش: كذا، دهان ثاني وش كذا، دهان ثالث وش: " كده نكتب الكشف 192 جنيه كمان " .
وسأل الناظر: طيب لو كتبنا تكاليف الخروف 18 جنيه تبقي كتير؟ تعجب الريحاني قائلا: ليه خروف مسكوفي ! إحنا نكتب : حبل ومخلة وجردل لزوم أكل الخروف كذا، حكيم بيطري لزوم الكشف على الخروف كذا، مزين لحلاقة شعر الخروف: كذا، أكل وشرب للخروف: كذا، كلاف لتنظيف حظيرة الخروف: كذا، كده نخليها 48 جنيه مش 18" .
قد يتسرع البعض في حكمه على استحضارنا للمشهد السابق بالقول أننا ندعو الرئيس إلى "اللف والدوران" على شعبه، ولكنني على هؤلاء أرد : ما عاذ الله ولكن يا أسيادنا هذه طبيعة البشر شئتم أم أبيتم .. تصدمهم المفاجأة لدرجة توقف عقلهم وتخرس ألسنتهم .. وتزعجهم الحقيقة وإن خلصت النية من ورائها .. فعلى سبيل المثال إذا أردت أن تخبر شخصاً ما نبأ الاستغناء عنه من العمل فالسيناريو في الغالب كالتالي : مسئول أو مسئولة الـ "اتش آر" ستتحدث إليه قائلة : "المدير مبسوط جدا من مجهوداتك الرائعة وبيبلغك انه مستغني عن خدماتك الجليلة".
نعم هذه طبيعة البشر .. فلو كان بيننا نجيب الريحاني لخرج علينا بالضرورات الملحة والأهداف الاستراتيجية لهذا القرار معدداً الفوائد الجمة التي ستعود على مصر والمصريين من مشروعات استثمارية وتشغيل آلاف الشباب .. ساعتها أعتقد المواطنين كانوا هيفكروا بطريقة مختلفة تتناسب مع حيثيات وأهداف القرار .. مش كدة ولا إيه ؟ .