لا يمكن بحال من الأحوال، إقصاء زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى القاهرة بعيدًا عن مجمل الأوضاع الإقليمية المرتبكة والعلاقات الدولية المعقدة، خاصة أنها تزامنت مع تصاعد الهجمة الأمريكية الأوروبية ضد مصر والسعودية.
كما لا يمكن النظر للزيارة من زاوية رؤية ضيقة، تعكس فقط التعاون الاقتصادى بين البلدين وإن كان هذا ضروريا ومهما لدعم خطط التنمية والتوسع فى مجالات الاستثمار بما يعود بالنفع على كلا الدولتين وشعبيهما، لكنها تمتد إلى المستوى الاستراتيجى، وما يتطلبه من ضرورات للأمن القومى العربى بكل أبعاده السياسية والعسكرية والجغرافية.
فى هذه الزاوية تكمن أهمية الزيارة ومضمون اللقاءات التى جرت بين العاهل السعودى والرئيس عبدالفتاح السيسي، فهذه اللقاءات أسست فى تقديرى لمفاهيم جديدة مفادها، الاتفاق على تحديد ملامح الخريطة السياسية ومستقبل المنطقة وفق رؤية قومية، لا تسمح بالتدخلات الأجنبية، كما أنها «أى الزيارة» حددت ملامح الإطار العام، لإقامة جسد عربى قوى ومتماسك قوامه البلدين الكبيرين، فضلا عن بث إشارات واضحة هدفها حث أنظمة الحكم العربية، على تحمل مسئولياتها القومية فى تلك اللحظات التاريخية الفارقة، التى تمر بها المنطقة على اتساع خريطتها الجغرافية، وهذا لن يتحقق على أرض الواقع، إلا إذا ابتعدت تلك الأنظمة عن الوقوف فى المنطقة الرمادية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المصيرية والإرهاب وبقية الأوضاع التى تهدد الاستقرار، بما يعنى ضرورة أن تكون مواقف أنظمة الحكم واضحة فى إطار الالتزامات القومية، بعيدا عن الانصياع للرغبات الأمريكية التركية المدعومة بأموال قطرية، وهى الرغبات الرامية لتمزيق المنطقة إلى دويلات عرقية ومذهبية وطائفية يسهل التهامها والتأثير فى قراراتها، والتمكن من نهب ثرواتها.
العمل الدؤوب على تنفيذ الأجندة الأمريكية، جعل إدارة البيت الأبيض لا تدخر جهدا فى استثمار المساحة الضيقة من التباين فى وجهات النظر بين القاهرة والرياض حول الأوضاع فى سوريا، بهدف الوقيعة بين الدولتين، وهى النغمة التى راحت أمريكا تعزف عليها فى محاولة لتوسيع مساحة الجفاء بين مصر والسعودية، لكن الزيارة فى هذا التوقيت وفى تلك الظروف دهست كل المحاولات التى التقطتها بعض وسائل الإعلام وراحت تروج لبعض المغالطات التى من شأنها ترسيخ فكرة خبيثة مفادها، وجود خلافات وتعارض فى المواقف الاستراتيجية بين مصر والسعودية تجاه الأحداث الجارية فى سوريا، سواء على مستوى الدولة وأهميتها فى محيطها الإقليمى أو النظام الحاكم، الغريب فى الأمر أن شريحة من النخبة، راحت تعزف على تلك النغمة فى محاولة لتزكيتها فى أوساط الرأى العام العربى بالمخالفة للحقيقة، دون إدراك بأن الموقف الرسمى السعودى ينطلق من أرضية قائمة على مواجهة العبث الإيرانى بالمنطقة فى إطار مشروعها الإمبراطورى، وهو موقف مرتبط بالأمن القومى والمصالح الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية، أما الموقف المصرى من الشأن السورى فتحكمه أبعاد استراتيجية وأمنية تتفهمها السعودية، باعتبار أن الهدف هو الحفاظ على تماسك الجيش السورى، وعدم تفكيكه مثلما جرى مع الجيش العراقى، حيث تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تسريح مليون ونصف المليون ضابط وجندى، فصارت العراق بلا جيش، لذا فإن الحفاظ على وحدة الجيش السورى يمثل إحدى أهم الأركان الأساسية لمتطلبات الأمن القومى العربى، فضلا عن أن سوريا هى إحدى دول الطوق والمواجهة، وطرف أصيل ورئيسى فى معادلة الصراع العربى الإسرائيلى، من هذه الزاوية تنطلق التوجهات والرؤى التى تخدم المصالح الاستراتيجية لكل دولة فى المنطقة.
الحديث عن المواقف المتعارضة أو المتباينة فى القضايا المهمة، دون فتح الملفات على مصراعيها وكشف الأوراق على موائد الحوارات والمنافشات بين الزعماء والقادة، ترك مساحة من الفراغ أتاحت الفرصة لإطلاق الشائعات فى وسائل الإعلام بما يمهد لتوسيع الفجوة بين الشعوب.
القراءة الموضوعية لمشاهد السياسة الأمريكية فى المنطقة العربية، تشير بوضوح إلى جملة من الحقائق التى يحاول البعض تجاهلها والقفز عليها لعل أهمها أن تلك السياسة تصب فى صالح التطلعات الإيرانية، وتهدف تمكينها من فرض نفوزها الإقليمى والسيطرة على المنطقة، وهذا بدوره يهدد المصالح الاستراتيجية للمملكة العربية السعودية، التى تعرضت مؤخرا لهجوم بغيض من دوائر أمريكية مختلفة، فى محاولة لتشويه صورتها دوليا، فى أعقاب الإعلان الرسمى عن تشكيل التحالف العسكرى الإسلامى لمواجهة الإرهاب، والتصدى للمشروع الفارسى الشيعى الرامى لحصارها، وفرض واقع جديد فى الإقليم عبر تشكيل أنظمة حكم موالية لإيران فى سوريا والعراق، وهو الدور الذى لعبته واستطاعت أن تحققه فعليا على أرض الواقع فى لبنان، عندما صنعت كيانا موازيا للدولة يمتلك ميليشيات عسكرية وأجهزة أمنية المقصود هنا «حزب الله» الذى يتزعمه الزعيم الشيعى حسن نصر الله، وأخيرا تمكنت من إشعال الحرب فى اليمن «الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية، حيث يقوم حكم آيات الله فى إيران، بتقديم الدعم المادى والتسليح لجماعة الحوثى وأنصار عبدالله صالح، الذين انقلبوا على السلطة الشرعية فى اليمن».
فى زهوة الانبهار بالسياسة الأمريكية، لم تدرك الشعوب العربية حجم المخاطر الناتجة عن الأطروحات والدعاوى التى جرى ترويجها فى الميديا، حيث تم تمرير المفردات البراقة والمصطلحات الناعمة التى دغدغت مشاعر وعواطف قطاعات عريضة من الشباب فصدقوها، وهى التى جرى تسويقها فى أوساط الشعوب العربية، تحت لافتة ثورات الربيع العربى، وانحاز لبريقها الشباب بالحماس دون دراية بحجم وبشاعة المخططات الأمريكية، التى تم تنفيذها على الأرض، فراحت تعزف على أوتار الفتنة الداخلية بمصطلحات جوفاء، مثل تغيير أنظمة الحكم الاستبدادية ونشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الأقليات العرقية والطائفية، بهدف خلق بيئة متنافرة وغير منسجمة داخل الأقطار العربية، بيئة مشحونة بالصراعات المذهبية والنعرات العرقية والطائفية.
إن الواقع يؤكد بما لا يدع مجالا لأى شكوك تلاقى المصالح والرغبات الأمريكية الإيرانية فى إثارة القلاقل ونشر الفوضى فى الأقطار العربية، وهذا وحده كاف بأن ينسف التكهنات والتسريبات الإعلامية عن وجود صراع بين واشنطن وطهران أو الأخيرة مع تل أبيب، هذه الصورة التى جرى تسويقها بهدف كسب التعاطف العربى مع إيران، بلغت منتهاها بالتصريحات العلنية، التى تمثلت فى تهديد الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض لطهران بفرض عقوبات دولية، إن لم تتوقف عن الاستمرار فى مشروعها النووى.
هذا التلاقى يصب فى صالح إيران والدولة العبرية فى آن واحد، خاصة إذا علمنا أن محاولات طهران الرامية لتوسيع نفوذها الفارسى تحت لافتة المذهب الشيعى لم تتوقف منذ ثورة الخومينى، وهو ما تحقق لها فعليا بالمخططات الأمريكية التى مزقت العراق لضمان صناعة هلال شيعى لحصار دول الخليج العربى.