كلما نظرت إلى حال الإسكان في مصر تنتابنى الدهشة، فنحن بلد لا تنضب أرضه من رطوبة "مونة" الاسمنت، نبنى على كل شىء، الأخضر واليابس وفى الجبال الواعرة، ونلتهم سنويا آلاف الافدنة من الأراضى الزرعية، ندق فيها الخوازيق نرمى أساسات البيوت والمساكن والابراج، ندهس على اقواتنا واقوات ابنائنا من أجل السُكنة والايواء، ورغم ذلك تبقى مشكلة الإسكان مستعرة على أشدها.
صحيح أن النمو السكانى المتزايد يمكن أن يكون معادلا لهذا الاستعار، لكن لو دققنا في ابعاد القضية والخطوات الرسمية التي اتخذتها الدولة، والخطوات المضادة التي يقوم بها المواطنين الذين يمكن أن ندرجهم تحت مسمى "الفهلوية"، نجد أن هناك كثير من الاخطاء والسقطات التي لا بد أن تسعى الدولة إلى الحد منها من أجل تخفيف عصبية المشهد الاسكانى في مصر الذي يصيب المجتمع المصرى لحد الادمان.
فعلا الإسكان في مصر مشكلة مستعصية يصعب فهمها، ففى كل دول العالم هناك خطط واضحة المعالم، منها قصيرة الأجل وأخرى طويلة الأجل، تستطيع أن تعرف بكل دقة احتياجات مواطنيها خلال العشر أو العشرين عاما القادمة، وتحدد مستويات الإسكان، حتى تستطيع أن توفى كل طبقة من طبقات المجتمع احتياجاتها، ولكن العملية في مصر تسير بطرق غريبة وعجيبة، وكأنها سمك لبن تمر هندى.
ففى الوقت الذي تقرر فيه الدولة بناء مليون وحدة سكنية خلال عامين، يتبعها إعلان وزير الإسكان أن الدولة جادة في بناء ستمائة وحدة سكنية في عام من أجل محدودى الدخل وأصحاب الدخول المتوسطة، وسط كل هذا نجد الإحصاء الصادر عن عدة جهات رسمية (منها الهيئة العامة للتعبئة والإحصاء) تفجر مفاجأة كبرى وهى إن مصر بها ثلاثة ملايين وسبعمائة وحدة سكنية مغلقة ولا يتم استخدامها! ومن ضمن هذا الرقم ما يزيد على مليون وحدة سكنية لم يستخدامها أصحابها منذ أكثر من عشر سنوات كاملة! بعد أن أغلقوها بالضبة والمفتاح!
خبراء الإسكان وأساتذة كليات الهندسة أكدوا أن هذه الوحدات لو تم فتحها وتأجيرها، ولو بنظام الإيجار المحدد المدة، فإنها سوف تحل أزمة الإسكان الراهنة بنسبة تزيد على 40٪، لكن الأدهى والأمر من مشكلة المواطن "الفهلوى"، هو ما تقوم به وزارة الإسكان!
فمن بين الفينة والآخر تعلن الوزارة عن توافر قطع أراضى في المدن الجديدة ـ وهى في الأصل مدن صحراوية ـ تباع الارض فيها بأسعار فلكية، فقد اشتكى المواطنون من ارتفاع الأسعار بعد أن وصل سعر متر الأرض هناك إلى ما يزيد على 4 آلاف جنيه، في مدن مثل 6 أكتوبر والقاهرة الجديدة، ووصل إلى ثلاثة آلاف جنيه في أسيوط الجديدة والمنيا الجديدة ومدن بدر والعبور وغيرها من المدن الصحراوية، التي لم يتم تعميرها بالفعل، في حين أن أماكن في منطقة الشيخ زايد بالسادس من أكتوبر وصل فيها سعر متر الأرض إلى ستة آلاف جنيه، في حين وصل ثمن متر الأرض بالمبانى في مدينتى "الرحاب" و"مدينتى" لما يزيد على سبعة آلاف جنيه!
هذه الأسعار الفلكية تطبقها وزارة الإسكان على الطبقة المتوسطة والاقل منها التي كانت تحلم في الماضى بامتلاك قطعة أرض فأصبحت الآن لا تستطيع حتى استئجار شقة في هذه المدن، والتي وصل سعر إيجار الشقة المائة متر إلى نحو ألفى جنيه، الأمر الذي أدى إلى القضاء على تلك الطبقة تماما ولم يعد هناك امل قريب في معاونتها على حياة كريمة مستقرة.
نحن في أشد الحاجة إلى تشريعات جديدة توقف هذا العبث الذي يهدر ثروة مصر من العقارات والأبنية، نحتاج إلى قوانين حاسمة رحيمة، تعيد سعر الأراضى الصحراوية في أطراف المدن إلى أسعارها الحقيقية، بدلًا من الأسعار الفلكية التي تعظم الأزمة ولا تحلها، خاصة بعد أن سيطر على هذه الأراضى في الماضى بعض المقتدرين، ولا نقول رجال الأعمال، ويبيعونها اليوم بأسعار فلكية بعد تسقيعها.
لن ينصلح حالنا إلا إذا وضعنا كل شىء في نصابه الصحيح، وهذا لن يتم الا إذا سعت الدولة لوضع خطة، ورؤية واضحة المعالم، تنظر للأمام، وتسعى إلى التخطيط للمستقبل بدلا من النظر تحت أقدامنا فقط.