المسافة بين شمال سيناء وبروكسل، ليست أبعد من المسافة بين باريس ودمشق أو بين روما وطرابلس، فكل العمليات الإرهابية الأخيرة، تجرى فى الحديقة الخلفية لأوروبا، النار وصلت للباب، رائحة شواء لحم البشر تزكم الأنوف، وصرخات الضحايا تتردد أصداؤها فى كل مكان، يصدها الصمم، ويقتلها التجاهل، تصور الجهلاء ـ نعم الجهلاء ـ فى أوروبا أن الحريق الذى استعر فى الشرق الأوسط لن يصيبهم، لن يقتل أطفالهم كما نال من أطفالنا، تصوروا أن الأمر ستحسمه قنابلهم، أو استخباراتهم أو قرارات برلماناتهم، تصوروا أنهم الأقوى، ومع أول اختبار قوة مع الإرهاب، خافوا واختبأوا، وتصدرت قواتهم المسلحة المشهد، وتكرر مشهد فرنسا فى بلجيكا، ولا أحد يعلم على من ستدور الدوائر.
تعالت التحذيرات فى العالم العربى، قادمة ومخلصة من الرئيس عبدالفتاح السيسى، والملك عبدالله رحمه الله، قالا إن القادم صعب ولن يستثنى أحدًا، لكن الرسالة لم تصل، وتحولت مع الوقت ـ كما يقول المثل الشعبى ـ إلى أذان فى مالطا، فلم يكن كثير من السياسيين فى أوروبا مستعدين لسماع صوت العقل، لا يصدق أنه فى خطر مثلنا، يهمس لنفسه كيف أكون مهددًا، وأنا لدىّ أقوى سلاح وأفضل نوعية حياة، وأدعم حقوق الإنسان، ظنوا أن أبوبكر البغدادى خصم شريف، لن يقترب من الذين فتحوا بلادهم للاجئين، لا يعلمون أن الإرهابى فى نسخته الجديدة لن يتردد فى ذبح أقرب الناس إليه، إذا صدرت له الأوامر، فنحن أمام وحوش آدمية حولتهم تفسيرات مغلوطة لنصوص دينية إلى أجساد تسعى للموت والخراب بحثًا عن سراب اسمه الخلافة واستعادة حكم العالم.
ما طرحته مصر عبر الرئيس السيسى، كان نابعًا من خلاصة تجربة دامية مع هذه العصابات، امتدت لسنوات عصيبة فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، عاصرت فيها تحولات عميقة وتطورات مذهلة فى بنية هذه الجماعات التى تمددت شبكاتها، مستغلة حالة القلق والفراغ الأمنى الذى صاحب غياب الدولة وضعفها، بالإضافة إلى التطور المذهل فى أدوات الإخفاء والتمويه، واستغلال الثغرات من أجل تحقيق أكبر قدر من الخسائر بهدف إثارة الرعب والفزع.
ما شهدته بروكسل ليس عملًا قادمًا من الفراغ، بل شهادة جديدة للتطور النوعى لدى داعش، فالمنفذون لديهم خبرات عالية فى التخفى، وجمع المعلومات، تعكس استفادتهم من خبرة القتال فى سوريا وليبيا، كما أن ظهور نساء الدولة فى المشهد، يشير إلى ميل قيادات التنظيم إلى التركيز عليهن بعد نجاحهن فى عمليات زرع العبوات الناسفة على مسارات القوات المصرية فى سيناء.
تركيز تنظيم الدولة على ضرب المطارات وقتل السياح، هدفه بث حالة من الرعب والقلق تضغط على الوضع السياسى والاقتصادى، بما يزيد من تعقيدات الحياة لدى سكانها يحولها مع الوقت لدول ضعيفة وهشة، بما يمكنه من السيطرة عليها، وهو ما يسعى إليه فى مصر وتونس والجزائر على المدى الطويل وليبيا على المدى القصير، فهم لديهم انتشار واسع لأفكارهم بين أجيال فقدت الثقة فى شكل الدولة الحديث، واقتصاد شبه منهار، وهروب للاستثمارات والسياحة، كما استفاد بشكل كبير من الضغوط السياسية المتعددة التى استجابت لمطالبات حقوقية، وركزت على دول مثل مصر والجزائر، بعدما نجحت فى إقناع الوعى الأوروبى عبر أجهزة إعلام منحازة بأنها ديكتاتوريات جديدة تدفع مزيدًا من الشباب نحو الإرهاب!
لم يتوقف من يطرح ذلك ليسأل نفسه عن سبب ما وقع فى فرنسا مثلا.. فمن قتل المحتفلين فى مسرح الباتكلان لم يعش يومًا تحت الحكم «القمعى».. بالطبع هذا ليس تبريرًا للقمع، أو إعطاء مبرر لحاكم، لكنه دعوة لدراسة ما يجرى بعمق وإدراك طبيعة الأحداث فى الشرق الأوسط.. فالخطر يقترب ويحتاج لتعاون الجميع على كل المستويات.. فهى موجة إرهابية غير مسبوقة، تخطط وتدبر وتسعى لإسقاط دول كبيرة، ما يتطلب من أوروبا إعادة النظر فى أخطاء كثيرة ومتراكمة حان وقت إصلاحها بأسرع ما يمكن.