الأربعاء 27 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

رغم أنف السلفيين.. كل سنة وأنتِ طيبة يا أمي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كانت الكتابة الذاتية مهمة صعبة وشاقة على أى كاتب، فإن الأكثر منها صعوبة ومشقة، الكتابة عن الأم، باعتبارها أعز من الذات، وأغلى الناس على وجه الأرض، فالكتابة هنا، حالة من البوح، خاصة جدا، حالة تعجز أمام وصف خصوصيتها قواميس اللغة، بكل ما تحويه من مفردات بها الكثير من المعانى والدلالات، فما بالنا إذا كانت الكتابة عنها بمناسبة عيدها. 
بهذه المناسبة سأحاول أن أكتب عن أمى، تلك السيدة التى أسكن الله الرحمة فى صدرها، فراحت تنثرها بين جدران بيتها، وتطلب منه المزيد فى صلواتها، فمنحها قدرة الصبر على مآسى الحياة، تحملت المسئولية بعد رحيل والدى، وصارت هى الأب بهيبته وشموخه، والأم بحنانها وعطائها اللا محدود، منحت الحب لنا جميعًا أنا وشقيقى وشقيقاتى، غرست بداخلنا بذور المودة وقيم الترابط فيما بيننا، تعلمنا منها أن عزة النفس تكمن فى الرضا والقناعة، وأن ما بيننا لا يخرج عنا.
كثيرًا ما يسألنى عنها بعض أصدقائى بدون أن يروها، هم يريدون الاطمئنان على صحتها، خاصة عندما يجدون ملامحى تشى بحزن أخفيه عنهم، فهم يدركون أننى مشغول عليها، فيتمنون معى أن يطيل الله فى عمرها ويمتعها بالصحة والغافية، خاصة أنهم يعلمون، أننى لا أحاول الاتصال بها عندما أصاب بوعكة صحية، خشية تأثرها، فهى تعرف حالى من صوتى، لذا أكتفى بسؤال شقيقى عنها.
أعلم تمامًا أن دعوات أصدقائى المقربين، بريئة، لدرايتهم بحبى لها، أما دعواتى أنا فأغلب الظن أنها تحمل قدرًا من الأنانية، بما يعنى أنها ليست بريئة بالمرة، أو هكذا تراودنى خيالاتى، بأننى أعشق ذاتى، وأنا لا أستطيع إنكار ذلك، وفى نفس الوقت لا يمكن لى أن أنكر الحقيقة التى تجافى ما يدور فى خيالاتى، وهى أن أمى أغلى من ذاتى. 
فمنذ أن تفتحت عيناى على الحياة، وأنا أعلم يقينا، أن دعواتها، تصاحبنى أينما ذهبت، فهى الدواء الذى يحصننى من شرور الإنسان، ويحمينى من قسوة الزمان، أتوضأ ليل نهار بدعوات أمى، دعواتها تحيط بى، كسياج واقٍ فى أوقات الشدة، وما أكثرها، التى تعرضت لها منذ مجيئى من بلدتى القابعة فى الصعيد الجوانى، قاصدًا العاصمة الساهرة الصاخبة، باحثًا عن موضع قدم فى بلاط صاحبة الجلالة، فتحقق لى ما كنت أصبو إليه، بفضل دعواتها، التى ما زالت تنير لى الطرقات المظلمة وتفتح أمامى الأبواب الموصدة.
أمى شأنها شأن غالبية الأمهات فى بر مصر، ليست متخصصة فى العلوم التربوية، وليس لها أدنى دراية، بما تنتجه المراكز البحثية من مطبوعات ودوريات، تتضمن توصيات عن طرق وأساليب التنشئة الحديثة، هى تعرف بفطرتها، أن لبن الأم يروى بذور النخوة والشهامة فى أحشاء وليدها، وتعلم أن حضنها الدافئ وطن آمن يسع أولادها وأحفادها، ورغم أنها لا تجيد القراءة ولا الكتابة، إلا أن ذلك لم يمنعها من اكتساب جوانب من المعرفة بقضايا الشأن العام، سواء من خلال سماع الراديو الترانزيستور، أو مشاهدة برامج التليفزيون منذ أيام الأبيض والأسود، هى تهوى مشاهدة المسلسلات الدرامية، وتجذبها أحاديث الشيخ متولى الشعراوى، وإنشاد الشيخ ياسين التهامى، تحب جمال عبدالناصر وتبغض الإخوان بقدر كراهيتها للكيان الصهيونى.
كانت أمى وما زالت تؤمن بقناعات راسخة فى وجدانها، قناعات مشحونة بنبل الفضائل، تمسكت بها فى زمن تفشت فيه الرذائل، قبضت على جمر قناعاتها، فجعلت منها منهاجًا لحياة أسرتنا، غرست فى عقولنا، أنا وأشقائى، مفاهيم تحمل دلالات الحكمة، مفادها أن شرف البنت وكبرياءها لا يكتملان، إلا بتعليمها، فالشهادة تحميها من غدر الزمان وحماقة الرجال، لذا كان إصرارها على إلحاق شقيقاتى واحدة تلو الأخرى بالجامعة، كان هذا الإصرار فى العقدين الأخيرين من القرن الماضى، لافتا لأنظار القريبين من أسرتنا فى مجتمع قروى منغلق ومنكفئ أفراده على ذواتهم، باعتبار أن قضية تعليم البنات فى الجامعة، شأن لا يقدر عليه سوى الأثرياء دون غيرهم من الأسر المستورة التى يطلق عليها الطبقة المتوسطة فى الريف.
رغم أن الحديث عن فضائل الأمهات من الأمور المقبولة كعادة حميدة فى مجتمعاتنا، إلا أن الاحتفال باليوم لم ينج من الجدل العقيم، الذى لا ينتج أى فكرة لها دلالات تبررها، وهى تحريم الاحتفال لتسميته بـ «العيد»، من قبل المتأسلمين والتيارات السلفية الظلامية، التى ترى المرأة بالأساس عورة، وليس لها أن تشارك فى المسئولية أو بناء المجتمع، مثل هذه النظرة المتخلفة، تجعلنى أنحنى كل يوم احترامًا وإجلالًا وتقديرًا لأمى، ومعها كل الأمهات اللاتى تحملن المسئولية دون انتظار لكلمة شكر، أو خوف من فتوى تصدر باسم الدين، والدين منها براء.