يظل المرء فى عيون الآباء والأجداد طفلا مهما كبر؛ ولعل شاعرنا العبقرى الراحل فؤاد حداد، قد لمس هذه الحقيقة الإنسانية، حين خاطب طفله من وراء الأسوار متخيلا أنه رآه فى الحلم يتيه بأنه كبر وأصبح قادرا على المشى والانطلاق، فيقول له: «مهما كبرت صغير أولادى ومتكبرشى على الأحضان بوسة وبوسة وبوسة كمان» إلى آخر أبيات القصيدة. ولكن ذلك الموقف الرقيق الرومانسى يختلف عن عبارة مشابهة نرددها كثيرًا.
«إنك لا تعرف مصلحتك» عبارة يرددها الآباء وترددها الأمهات فى مواجهة اقتراحات وتصرفات تبدو لهم طائشة تصدر من أطفالهم؛ وكثيرا ما يظل الكبار متمسكين بتلك العبارة الأثيرة لديهم، حتى بعد أن ينضج الأطفال ويصبحوا كبارًا. قد يقولون لهم بأطراف ألسنتهم «لقد كبرتم وعليكم الاعتماد على أنفسكم كراشدين مستقلين»؛ ولكن تظل عيون الكبار عليهم تراقبهم وتراجع تصرفاتهم لتواجههم فى الوقت المناسب بصرخة «إنكم لا تعرفون مصلحتكم».
إنها كلمة سحرية يخيل للكبار أنهم من خلالها يستطيعون الاستمرار فى إحكام قبضتهم على الأجيال القادمة. إنهم لا يريدون بتلك الأجيال شرا بالتأكيد؛ بل يريدون لهم الخير كله، يريدون حمايتهم من الأشرار، وتجنيبهم مزالق الغواية والانحراف، غير أن النوايا وحدها لا تكفى والطريق إلى جهنم والعياذ بالله مفروش بالنوايا الحسنة؛ ولم يعد الأمر قاصرًا على تحكم الأكبر سنًا فى الأصغر سنًا؛ فكثير من ممثلى الدولة فى بلادى يتصورون أنفسهم ورثة أولئك الآباء والأمهات، وأصبح الشعار «الدولة تعرف أكثر»؛ وأننا مهما تقدم بنا العمر، وحتى لو اشتعلت رؤوسنا شيبًا نظل أطفال الدولة المنوط بها حمايتنا من أنفسنا.
رب من يتساءل وما علاقة ذلك كله بالجامعة واستقلالها؟ ألا ينص الدستور الحالى فى المادة ٢١ على أن الدولة تكفل استقلال الجامعات وتنص المادة ٢٣ على أن «تكفل الدولة حرية البحث العلمى وتشجع مؤسساته»، وتنص المادة الأولى من مواد قانون تنظيم الجامعات أيضا على كفالة الدولة لاستقلال الجامعات. ترى ما المطلوب بعد كل ذلك؟
النصوص تبدو واضحة جلية؛ فضلا عن أن الدولة هى التى تقوم بتعيين السيد الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالى، وكذلك تعيين السادة الأساتذة الدكاترة رؤساء الجامعات؛ مما يجعل الأمر يبدو كما لو كان كل شيء تحت السيطرة؛ ولكن العديد من الوقائع تقول غير ذلك؛ ويكفى أن نستعرض معًا واقعة الدكتورة خلود صابر محمد محمد بركات المدرس المساعد بقسم علم النفس جامعة القاهرة.
حصلت خلود على منحة أعلنت عنها واحدة من الجامعات البلجيكية؛ ووافق قسم علم النفس على منحها إجازة دراسية، وأصدر نائب رئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا فى ١٢ أغسطس ٢٠١٥، باعتباره مفوضًا من رئيس الجامعة، الموافقة النهائية على سفرها؛ أى أن ثلة من الأساتذة المتخصصين فى علم النفس وجدوا فى إيفادها فائدة للعلم والوطن؛ واعتمد الأستاذ الدكتور رئيس جامعة القاهرة قرار مجلس القسم؛ وسافرت خلود إلى الجامعة البلجيكية فى أكتوبر ٢٠١٥؛ بعد أن استوفت جميع الإجراءات المنصوص عليها فى القانون.
وإذا بها بعد سفرها بعدة شهور، تتلقى رسالة عبر البريد الإلكترونى من إدارة كلية الآداب بجامعة القاهرة، فى ١١ ديسمبر ٢٠١٥، تفيد بإلغاء إجازتها الدراسية نظرًا لعدم موافقة الإدارة العامة للاستطلاع والمعلومات بوزارة التعليم العالى على منح خلود تلك الإجازة الدراسية، وأن عليها العودة واستلام عملها بقسم علم النفس بكلية الآداب فى جامعة القاهرة؛ وامتنع الأستاذ الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة عن تنفيذ القرار، فبادر الأستاذ الدكتور أشرف الشيحى، وزير التعليم العالى والبحث العلمى، بإرسال خطاب إليه يطالبه فيه بإحالة ملف الموضوع كاملًا للتحقيق، مع ضرورة موافاته بنتيجته وبما يتم اتخاذه من إجراءات على وجه السرعة فى هذا الشأن.
ويعترض الأستاذ الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة على قرار الأستاذ الدكتور أشرف الشيحى وزير التعليم العالى والبحث العلمى، مؤكدا أن اختصاصات وزارة التعليم العالى، تنحصر فى إدارة العملية التعليمية بجميع الجامعات والإشراف عليها، ولكن ذلك لا يخول لها التدخل فى القرارات، موضحًا أن دستور ٢٠١٤ يحتوى على ١١ مادة دستورية تنظم عملية التعليم فى مصر. ولعله مما يعنى القارئ المهتم، أن يعرف أن الأستاذ الدكتور أشرف الشيحى وزير التعليم العالى، قد تدرج فى جميع المناصب الأكاديمية والإدارية بالجامعة، إلى أن شغل منصب رئيس جامعة الزقازيق، قبل توليه منصبه الوزارى، أى أنه يعرف يقينًا القواعد والقوانين المنظمة لعمل الجامعات؛ كذلك فإن أحدا لا يشك فى دراية الفقيه الدستورى الأستاذ الدكتور جابر نصار رئيس جامعة القاهرة بتلك القواعد والقوانين. ترى لماذا تبنى كل منهما تأويلًا مختلفًا لما يعرفه كلاهما؟ ولسنا بصدد تتبع مسار القضية التى يبدو أنها وجدت طريقها للحل بشكل أو بآخر.
ولنطرح تساؤلًا قد يبدو غريبًا: ترى لو شاء القدر أن يتبادل الأستاذ الدكتور الوزير والأستاذ الدكتور رئيس الجامعة المناصب، هل كنا سنشهد تغيرًا فى مجريات الأحداث؟
ترى هل نجاوز الحقيقة كثيرًا إذا ما ظننا وليس كل الظن إثمًا، أن شعار «أنت لا تعرف مصلحتك» ما زال يحكم العلاقات بين تسلسل المناصب؛ حتى لو كان تسلسلًا وهميًا وقتيًا عابرًا؟ أم أن فى الأمر ما خفى علينا؟.