فى هذه الحلقة نكمل شهادة الشاهد سعيد أمام المحكمة حيث انتقل الدفاع من التعذيب النفسانى إلى التعذيب الجثمانى فراح يسأل الشاهد سعيد.
س: هل وقع فى ٢١ فبراير منظر عاصف؟ أو أقسم على القرآن أن يقتلها؟
ج: لا.
س: هل تعرف أنها كانت تخاف على حياتها؟
ج: لم أعرف مطلقًا.
س: هل أخذها معه على ظهر (اليخت الخاص) إلى الأقصر فى ٢٣ فبراير، على مبعدة عشرة أيام من القاهرة؟.
ج: نعم.
س: أكان ستة من العبيد فى خدمة اليخت؟
ج: نعم.
س: أظن أنه شرع من تلك اللحظة يعاملها بقسوة؟
ج: لا أستطيع أن أقول قسوة ولقد كان يغلظ بعض الغلظة.
س: ألم تكن مدام ف... فى سنة ١٩٢٣ تغاير كل المغايرة مدام لوران سنة ١٩٢٢؟.
ج: ربما.
س: ألم تتحول من فتاة مرحة، باسمة الثغر، حسنة اللقيا، إلى سيدة كسيرة الفؤاد مهمومة؟
ج: كانا دائمًا على خلاف.
س: هل قالت إنك وعلى بك كنتما ضدها، وإنها كانت سيدة بمفردها ضد رجلين معًا؟.
ج: نعم.
وحرص الدفاع على ألا يستطرد فى البحث فى أخلاق المجنى عليه، فتلك هجمة يتصدى لها الاتهام بهجمة مضادة عن أخلاق المتهمة.. ومن الحكمة السكوت.
شهد الطبيب الذى أسعف القتيل أنها ذكرت له سبب شجارهما، وأنها كانت تشكو آلامًا مبرحة فعزمت أن تجرى عملية جراحية فى باريس، ولم يكن معها مال، فمنعها بل جذبها بقوة وعنفها بقسوة. فكانت فى فزع مستمر وأخرجت المسدس لتفرغ طلقاته، فأفرغت واحدة، أطلقتها من النافذة، لكنها وهى تصنع ذلك شهدته مقبلا نحوها، فسددت إليه المسدس لتمنعه أن يهجم عليها، فلم تدر إلا وقذائفه تنطلق... وقرر الطبيب أنها أفصحت له عما قاسته بقولها: يا سيدى لقد تزوجت منذ ستة شهور وأشد ما قاسيت.
يقول عبدالحليم الجندى:
وبدأ المحلفون يستشعرون هول ما عانت. فقد كان فيهم ثلاث نسوة.. وخلا الجو لمارشال هول وهو يترافع فى عاصمة العالم الغربى (لندن) عن متهمة من مدينة النور (باريس) فلم يحتسب للشرق حسابًا، وافتتح الدفاع، فى اليوم الثالث، فتحدث عن زهو خارق للعادة يتملك الشرق إذ يجد فى حوزته سيدة غربية! وتحدث عن قسوة المتهم الشرقى إذ يتطلب من زوجته طاعته كالعبودية، ويعاملها بقسوة مستمرة حطمت أعصابها، وأضاف أنها تلقت فى فندق سافوى خطابًا غفلًا من التوقيع ينصحها فيه مرسله «ألا تعود إلى مصر مخافة أن تنجلى الرحلة عن حادث. كسم فى زهرة أو سلاح لا يرى ولا يسمع! استمرى فى باريس مع هؤلاء الذين يحبونك وسيحمونك».
قال الدفاع «كان يروق ذلك الزوج أن يطلق النار فوق رأسها لترويعها، ويقيم عبيدًا لمراقبتها ومنهم عبد ضخم الجثة اسمه.. كوستا!!
وفى ليلة الحادثة لوح لها بالمال اللازم للجراحة التى كانت بسبيلها، ثم أباه عليها لتخضع لرغبته غير الطبيعية، وفى نفس الليلة هددها بالقتل! بل أخذ بخناقها وامسك برقبتها.. فحسبت أنه سوف يقتلها».
واستجوبت المتهمة فقررت أنه فى شهر يناير أقسم على القرآن أنه قاتلها وأنها ستموت بيده وأنها كتبت إلى محاميها فى باريس تقول إن ذراعيها يحملان «آثار ظرف (!) زوجها».
وقررت أنها لم تكن أطلقت قذيفة واحدة حتى ليلة الحادثة. وأن المسدس الذى استعملته قدمه القتيل إليها مشحونًا صالحًا للانطلاق، وأنها شهدته يفرغ مسدساته بفتح الخزانة وإخراج الخرطوش، فحاولت إخراج الخرطوش بعد أن خنقها، فلم تستطع، فعالجت ذلك بتحريك المسدس فى النافذة فانطلقت منه قذيفة فى الفضاء، ظنت بعدها أنه لم يعد فيه قذائف قابلة للانطلاق لكن المسدس كان من المسدسات التى تملأ فيها الماسورة من نفسها عقب انطلاق القذيفة.
وأضافت أنها لا تعرف شيئًا عن الأسلحة النارية.
سألها المحامى مارشال هول: ألم تكونى تشعرين أنك ستكونين آمنة السرب فى لندن!
يريد أن يثير الاعتداد فى نفس المحلفين بالطمأنينة فجثت إلى جواره، تقول «يا عزيزى.. لا شىء.. تكلم.. كلمنى».
وتولت المحامية الباريسية الشابة «أوديت سيمون» ترجمة أقوالها إلى الإنجليزية.
وفاجأ مارشال هول الاتهام بمستندين جليلى الخطر:
الأول: برقية أبرقت بها إلى باريس فى ٩ يوليو تنبئ أنها قادمة إليها.
والثانى: وصيتها لمحاميها بمصر: (أنا مارى... أتهم بصراحة فى حالة موتى بعنف أو بأى سبب، على.. بك بأنه شارك فى اختفائى! لقد أقسم على الانجيل أو القرآن فى الساعة الثالثة من مساء أمس ٢١ يناير سنة ١٩٢٣... أنه سيثأر لنفسه غدا أو بعد ٨ أيام أو شهر أو ثلاثة أشهر وأننى يجب أن أختفى بفعله ولم يكن لهذا القسم مبرر من غيرة أو سوء سلوك أو نزاع، إنى ألتمس وأستحق العدالة لبنتى وأسرتى).
وانطلق «مارشال هول» يقول ويقول... ويتطور ويتطور، حتى تدهور، إلى حيث قال «لقد ارتكبت هذه السيدة الخطيئة الكبرى وتزوجت رجلا شرقيا، إنى أجسر على القول بأن الحضارة المصرية كانت، أو قد تكون، إحدى الحضارات القديمة العظيمة، ولكنك إذا انتزعت الغشاء الخارجى، من حضارة الشرقى، تجد تحته الرجل الشرقى الحقيقى».
وراح يصف كيف أدخل القتيل موكلته فى «جنته الشرقية والعبد الضخم على رأسها. والقلق يسيطر على نفسها، وهو يضيفها إلى مملكته، إلى الحريم التركى، وتلك أشياء لا نفهمها، ولا نستطيع أن نتعامل معها».
واستطرد بصوته المسرحى ونبراته التمثيلية يرد على كلمة النائب العمومى قوله إن المتهمة كان عليها أن تستعين بسعيد... ليدفع عنها أذى القتيل، فقال بمن تستجير!! أليس سيد عضو الثالوث «النور. وظل النور. وخيال الظل».
وأشار إلى العاصفة التى اجتاحت لندن فى تلك الليلة الليلاء وتأثيرها فى أعصاب السيدة المريضة النفس، المضطربة الحس، واستمر فى فيوض التدفق البلاغى حتى وصل إلى حادث الإطلاق فمثل أروع موقف فى تاريخه كمحام. ووصف القتيل كرجل شرقى كوحش!... يهجم على سيدة ليفتك بها، ومثلها وهى تهدده بالمسدس وتصوبه تجاهه، وكيف انطلق ذلك «الشىء» الذى يكمن الفناء فى أنحائه... وفيما هو يتحدث عن انطلاق «العيار» أمسك المسدس وظل يسدده إلى صدور المحلفين حينًا، فلما انتهى من وصف القتيل عندما سقط... أملى قليلا... وترك المسدس يسقط من يده على الثرى... وفوق بلاط المحكمة! كما سقط على الثرى من يد موكلته فوق بلاط فندق سافوى!! ولم يكن باقيًا إلا أن يفتح الأبواب للمتهمة فيقول: افتحوا الأبواب لهذه السيدة الغربية لتخرج، لا إلى ظلام الصحراء ولكن إلى ابنتها، التى تنتظرها فاتحة ذراعيها، افتحوا الأبواب لترجع إلى الأنوار التى تنبعث من شمس المغرب..! وأشار إلى نور السماء حيث الصحو المتدفق فى قاعة المحكمة يشيع الدفء والضياء، فتكاملت بهذه الإشارات إلى النور والدفء، وبالحركات والرنات المترددة من سقوط المسدس، ومن قوة ذاته وتدفق عباراته، حبكة مسرحية بلغت ذروتها، لو صنعها محام آخر لسفهه أقرانه لكنها من «مارشال هول» كانت إحدى الروائع... ثم صاح قائلا: إننى لا ألتمس البراءة.. ولكنى أطلبها من بقين أيديكم.