السبت 05 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

إنقاذ أبوسمبل.. كيف تنقل جبلًا؟

ما وراء السد (٤)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا حججت يومًا إلى أبوسمبل، فستشهد مناسك للعمل والتفانى والدقة والصبر. 
بعيدًا عن أسوان بأكثر من ٢٨٠ كم، أمر رمسيس الثانى ببناء معبدين عظيمين تخليدًا له ولزوجته المحبوبة نفرتارى، أراد الملك أن يدلل على سيطرته وهيمنته على مصر، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، بدأ العمل فى بناء المعبدين فى حوالى ١٢٤٤ قبل الميلاد واستمر لمدة ٢١ عامًا تقريبًا. 

هل للرمل ذاكرة؟ هل يحفظ خطوات مئات البشر، عمال ونحاتون ورسامون، كانوا هنا، كشفوا عن جوهر الجبل الصلد وأحيوه معبدين عظيمين، تماثيل وأعمدة، ولوحات جدارية وأسقفًا ملونة بحكايات ومعارك وقرابين وطقوسًا ورحلات لعالم الخلد، هل تشربت الرمال حبات عرقهم؟ إلى أين حملت الريح أصواتهم، ضحكاتهم وأنينهم؟، هل مات منهم أحد غريبًا بعيدًا باحثًا عن لقمة عيش؟، أين دفنوه؟ تعى الريح كل شيء، لكنها لن تتكلم بما شهدت، ولن يروى الرمل، سيتركنا ننقب فى الذاكرة، فى الخيال، ولن يكون هناك من يقين سوى ما أنجزته أيدى الذين لا نعرفهم. 
فى أبوسمبل تتردد تكبيرات: ما تفعله هو وحده الباقى. 
فى الخطبة الكبيرة يعلم الكاهن شعبه أن كل محاولة جادة فى الحياة هى طريقة لتوحيد الرب الذى أحسن كل شيئًا خلقه ثم هدى. 
من حمل إلينا حكمة الزمن؟ من علمنا أن نكون ؟ لا شك أنه هو النيل، من سار منسابًا، محدد الاتجاه لملايين السنين، لا يلتفت ولا يتشعب ولا يتلكأ ليستريح أو يستمع لحكايات أو مسامرة، لا تغريه غزالة شاردة، فينحرف إليها ولا تغويه عينان لوزيتان فيتأنى. مستقيم كزاهد، منضبط كعابد، دائم كالأيام والقدر، يأتى الفيضان فتغرق البلاد، ويشح فيحل الجفاف.
فهل من معجزة تروض النهر؟ لم يكن زمن المعجزات قد ولى، فكان مشروع السد العالى، وفى غمرة الدراسات واختيار التصميمات ارتفع صوت ينبه: ستغرق آثار النوبة، ستغرق المعابد، سيغرق أبوسمبل، هل سيحل اليأس؟ هل سيحل التشاؤم؟ هل سنغرق؟ لا.. لن يغرق التراث الإنسانى. لم تكن صرخة مصرية، كانت صيحة عالمية أطلقتها منظمة اليونسكو، ودعت دول العالم، كل البشر للمساهمة فى إنقاذ آثار النوبة وعلى رأسها معبدا أبوسمبل، اجتمع خبراء أكثر من خمسين دولة لإيجاد حلول لإنقاذ المعابد، كان التحدى كبيرًا بسبب ضخامة المعبدين.
تعددت الاقتراحات والأفكار، ووضعت عدة خطط للإنقاذ: كان هناك اقتراح فرنسى بترك المعابد تغرق وإقامة قبة زجاجية حولها وتنقية المياه لسهولة الرؤية، لكن المياه ستفتت المعابد المنحوتة فى الجبل من الحجر الرملى، واقتراح إيطالى برفع المعابد بنظام الجاكات الهيدروليكية، لكن هناك تخوف من تصدع المعبدين بالكامل، اقتراحات واقتراحات، ولكن الأقدار اختارت أن يتم تنفيذ اقتراح النحات المصرى أحمد عثمان عميد كلية فنون الإسكندرية، الذى قدم اقتراحًا بتقطيع جسم المعبد وترقيم كل جزء وإعادة تركيبه فوق منسوب ١٩٠ وهو المنسوب الآمن الذى لن تصل إليه مياه بحيرة ناصر أبدًا، وقامت بتنفيذ هذه الفكرة مجموعة من الشركات الدولية تحت إشراف اليونسكو.
بدأت عملية الإنقاذ الكبرى للمعبد فى ١٠ أكتوبر عام ١٩٦٤ بتقطيع ورفع وجه رمسيس الثانى الذى نحت على واجهة معبد أبوسمبل. 
فى الباخرة وفر لنا مرشدنا «أحمد الصغير» فيلمًا أنتجته اليونسكو عن إنقاذ آثار النوبة، وعلى رأسها معبدا أبوسمبل وقد شاهدت الفيلم أكثر من مرة بعد عودتى للقاهرة على اليوتيوب أكثر من مرة، كى أستوعب وأعايش ما فعلوه، فقد كانت فكرة تقطيع معبد أثرى فكرة مرعبة للأثريين، وتبدو الفكرة بالنسبة للكثيرين بعيدة عن التصور. كيف؟ أخذت أتابع على الشاشة خطوات المشروع:
أقاموا سدًا مؤقتًا من الحديد عازلًا بين ماء البحيرة والمعبدين بطول ٣٧٥ مترًا وارتفاع ٢٧ مترًا ودعم بالصخور والرمال، ثم بدأوا بقطع الجبل حول وأعلى المعبدين، ولحمايتهما تمت تغطية واجهة المعبدين بالرمال، وتمت تغطية تماثيل القرود فى الجزء العلوى من الواجهة بمظلة خشبية، وضعت ماسورة معدنية كبيرة من خلال المداخل كنفق يسمح للمهندسين والمرممين بالعمل داخل المعبدين أثناء قطع الجبل أعلاهما.
بعدها بدأوا بتقطيع المعبدين إلى كتل حجرية، بلغ عددها أكثر من ١٢٠٠ كتلة حجرية، وكان وزن كل كتلة يتراوح بين ثلاثة إلى عشرين طنًا، وكانت كتل المعبدين تقطع بمناشير يدوية وبعناية، ورقمت هذه الكتل حتى تسهل إعادة تركيبها فى أماكنها ورمم بعضها، وتم نقلها إلى مكان التخزين. 
مهدت المواقع الجديدة للمعبدين، والتى تبعد عن الموقع القديم بحوالى ١٨٠ مترًا وعلى ارتفاع ٦٠ مترًا من الموقع القديم، أزيلت منها الصخور البارزة، وتمت تسوية سطحها وبدأت مرحلة إعادة تركيب المعبدين، وتم تركيب كتل المعبد من الداخل أى من قدس الأقداس حتى الواجهة.
كان لا بد من بناء جبل تمامًا كالجبل الذى كانا منحوتين فى قلبه، فتم بناء قباب خرسانية فوق المعبدين، لكى تحميهما من ثقل وزن صخور الجبل الصناعى، وتعتبر قبة المعبد الكبير هى أكبر قبة فى العالم ويبلغ قطرها ٦٠ مترًا وترتفع ٢٢ مترًا. 
استغرقت عملية الإنقاذ فى الفيلم الوثائقى ثلاثين دقيقة، ولخصتها على الورق فى مائتى كلمة، لكن عملية الإنقاذ الفعلية استغرقت ٤ سنوات ونصف السنة، تكلفت عملية إنقاذ المعبدين حوالى ٤٠ مليون دولار، قامت مصر بدفع ثلث المبلغ، وشارك فى الإنقاذ ٥ آلاف شخص ما بين أثرى ومهندس وعامل، بشر من مصر والسودان والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإنجلترا والسويد وغيرها من البلدان، عائلات جاءت للإقامة فى الموقع، قرى بنيت لتستوعب أعداد العاملين وحمامات سباحة خصصت ليلهو الصغار بينما يعمل آباؤهم و يشاركون فى التحدى، كلهم جمعهم الأمل والطموح للمحافظة على ما أنجزه بشر غيرهم منذ آلاف السنين، تجمع بشرى ضخم، عمال لا يكفون عن النشر وتقطيع التماثيل، سائقو لوريات تحمل القطع المقطوعة والمرقمة إلى مكانها الجديد، علماء يختبرون أفضل الحلول للمحافظة على المنحوتات، والرسوم وألوانها أى حركة خاطئة ستؤدى إلى تشوه أو تدمير أثر، أى شرارة ستحرق الموقع. التحديات كانت كبيرة بقدرهم. كان عليهم المحافظة على ظاهرة تعامد أشعة الشمس على التماثيل الثلاثة لرمسيس ورع وآمون فى قدس الأقداس مرتين فى السنة، هو التحدى الكبير فى عملية النقل، كان الضغط كبيرًا وعقارب الساعة لا تكف عن التهام الوقت المتبقى أمامهم لينجزوا المهمة، أو تغمر المياه المعبدين ويغرقان للأبد، وهذا ما لم يحدث لأنهم نجحوا، تمت إعادة افتتاح المعبدين فى ٢٢ سبتمبر ١٩٦٨. والأهم أنهم استطاعوا أن يوجهوا رسالة للعالم، أننا كبشر نستطيع وأننا نستحق ما تركه لنا الآباء وقادرون على المحافظة عليه. 
أكتب هذا وأنا أتخيل: ماذا لو أن «فيس بوك» كان موجودًا فى العام ١٩٥٨ عندما بدأت الدعوة لإنقاذ آثار النوبة؟ أى سخرية كان سينالها هذا المشروع الإنسانى الحضارى الفريد، تسعفنى بديهتى بالكثير، لكننى لن أكتبه. فهذه المساحة أخصصها للذين يعملون ويحلمون فى أوقات راحتهم بما سوف ينجزونه بمجرد انتهائهم من آخر رشفة فى كوب الشاى، أو آخر قطعة فى ساندويتش الفول، للذين يخوضون غمار الحياة غير عابئين بما فيها من صعاب، وكأنهم بلا هموم، أو كأن الهموم لا تجرؤ على الاقتراب منهم، الذين يولون وجوههم قبل الشمس، وهم واثقون أن الأزمات ليست طرقًا مسدودة أمام الإنسان، بل هى عقبات عارضة سرعان ما يتغلب عليها بالجهد والعمل الدؤوب. أتركها للمتفائلين الذين يملكون قوة مضادة للإحباط تجعلهم لا يستسلمون أبدًا ولا يصابون باليأس، لأنهم يمتلكون ما يؤمنون به، الذين يعلمون أن النهر يبدأ بقطرة ماء واحدة، وأن ضربة فأس واحدة تحدث فرقًا، وأنهم يستطيعون نقل جبل من مكانه فقط إذا حاولوا. أما الذين يسندون ظهورهم لليأس والعويل فلهم فيس بوك، فالفشل هو الشيء الوحيد الذى تحققه دون أى مجهود.
■ وقفة قصيرة 
■ لا تصدقوا مقولة هنرى ميللر: «لا تحاول أن تحدث فرقًا ما دام كل شيء عبارة عن مزحة»، يمكن للمخلصين أن يحدثوا فرقًا فى كل الأوقات.