بعد
انحسرت الموجة الأولى للإرهاب وانحسرت قوتها، وتراجعت حدتها، مع نهاية أربعينيات
القرن الماضي وبداية الخمسينات منه، عاد الإرهاب مرة أخرى -متمثلًا
في الجماعة الأم للإرهاب: جماعة الإخوان الإرهابية- يجمع شتات نفسه، ويعيد تكوين
ذاته، عاد لكي يكرر التكرار مرة أخرى، مستفيدًا من التجربة السابقة، متلافيًا
أخطائه فيها، بل وكي يعود أقوى مما عليه كان!
ففي الوقت الذي لم تستفد الدولة – مع الأسف- من انجازاتها في محاربة
الإرهاب، استطاع الإرهاب أن يستفيد من إخفاقاته، وهزيمته، ليعاود نشاطه مرة أخرى مثقلًا
بخبرة التجربة السابقة!
فضرب الإرهاب مصر ضربة إرهابية جديدة كانت موجتها أعتى وأعلى وأقوى وأشد
من سابقتها، وبعد أن كانت الموجة الأولى تقتصر على عدة عمليات اغتيالات سياسية
لبعض الرموز السياسية والقضائية، والتي نجح بعضها وفشل معظمها، وكذلك اقتصرت
الموجة الأولى على بعض العمليات الخائبة، من محاولات للتفجير أو التحريق، جاءت
الموجة الثانية في نهاية الخمسينات وبداية وأواسط الستينات، لتبعث رسالة للجميع أن
منحنى الإرهاب في صعود، وأن على الدولة والمجتمع أن ينتبهوا، من أنه في كل مرة
سيكون الحال أسوأ من سابقه، وأنه لا مفر من القضاء التام على الإرهاب واقتلاعه من
جذوره، قبل أن يقتلع هو الدولة من جذورها!
ولكنه –ومع الأسف- لم يفطن أحد للرسالة، ولم يفك أحدهم شفرتها، وتعامل
الجميع مع الواقع، كما الطبيب الفاشل، والذي يتعامل مع الأعراض فيعالجها، ويترك
المرض ذاته، يستشري وينتشر في الجسد كله حتى يهلكه!
فتعامل الجميع مع العرض وقاوموه وتركوا المرض ذاته دون العلاج الشافي
والدواء الكافي، فخفت الأعراض شيئًا فشيئًا، وبقي المرض ساكنًا، وكامنًا في الجسد
من غير علاج، يوشك أن تفور فورته مرة أخرى على حين ضعف ووهن، وفي ساعة غفلة تامة
من الجميع، فيقضى على جسد الأمة تمامًا!
و بالفعل كانت الموجة الثانية للإرهاب أقوى من سابقتها بما لا يقاس، وتحول
الأمر معها، مما يمكن أن يقال عنه: أنه كان في الموجة الأولى: "عمل الهواة"،
أو "لعب العيال"، إلى "عمليات محترفين"، وتخطيط مدربين، على
مستويات عالية، فبعد أن كانوا سابقًا قد فشلوا في اغتيال بعض الشخصيات العامة كــ "العقاد" مثلًا، ولم يستطيعوا أن يصلوا إليه، تطور الأمر، فارتفعت
إمكاناتهم، وعملوا كما المحترفين فخططوا وتدربوا ونفذوا، حتى لقد وصل الأمر إلى
محاولة – كادت أن تنجح لولا الستر من الله- لاغتيال رئيس الجمهورية شخصيًا، وذلك في
حادثة المنشية الشهيرة!
و كذلك بعد أن كانت الموجة الأولى من الإرهاب تقتصر على "لعب
العيال" بوضع قنبلة بدائية أمام قسم للشرطة، أو إلقاءها على بعض التجمعات، أو
على أحد المحلات، جاءت الموجة الثانية مختلفة تمامًا، فقد كانت أقوى وأعلى من
سابقتها بمراحل لا تدرك!
فقد وضعوا لأنفسهم خطة محكمة، وحصلوا على كمية مرعبة من المتفجرات، وخططوا
لتدمير مصر كلها، وذلك بتدمير جميع مولدات الطاقة على مستوى الجمهورية في آنٍ واحد،
لتظلم مصر كلها في لحظة!
و كذلك خططوا –و كادوا أن ينفذوا- لتدمير العديد من المنشآت الحيوية
بالديناميت والمواد المتفجرة، لكي يصيبوا البلاد كلها بالشلل التام في دقائق
معدودة!
وكذلك خططوا –وكادوا أن ينفذوا- لتدمير القناطر الخيرية بأكملها، لتغرق
الدلتا كلها، ويهلك من وما عليها، من بشر وزرع وحيوان، وتحويل دلتا مصر كلها في
غضون ساعات إلى ديار خراب وأرض يباب لا يبقى فيها خيرًا ولا يذر!
بعد ذلك كانت خطتهم تقتضي السيطرة على السلطة وإعلان البيان الأول من
مبنى ماسبيرو بعد السيطرة عليه بقوة السلاح هو الآخر!
وكانت الخطة الخبيثة هذه من الإحكام بحيث تؤدي إلى نتائجها الكارثية المنشودة
لهم، ولكنه، ولولا رحمة الله بهذا البلد الأمين وبأهله الطيبين، لكان ما لا تحمد
عقباه إلى هذه الساعة .
فمن هذه الرحمة الربانية بنا، أن كان قائد "التنظيم الخاص
السري" للإخوان الإرهابية، في ذلك التوقيت، هو "سيد قطب"، وكان
بسبب أمراض نفسية كثيرة، ألمت به، منذ طفولته، قد أصابته بالتردد والشك في كل شيء
وفي كل أمر وفي كل الناس، فقد كان مترددًا عصبيًا بطبعه، يفتقد إلى صفات القائد
المحنك، فلم يستطع اتخاذ قراره، بإعطاء أوامره لأتباعه، باتخاذ اللازم وبدأ تنفيذ
الخطة، فكان تردده هذا رحمة من الله بنا، فسبقت يد الأجهزة الأمنية يد الإرهاب
بخطوة واحدة، وتم بذلك إبطال هذا المخطط اللعين لتدمير مصر كلها، وقتل أبنائها!
ليبقى لنا هنا ملاحظتان هامتان وأمران لا يمكن القفز فوقهما وتجاوزهما
دون التنبيه عليهما مرارًا وتكرارًا والتنبه لهما تمام الانتباه، وهما
:
أولًا: أن الموجة الإرهابية الثانية في نهاية الخمسينات وبداية وأواسط
الستينات، جاءت بعد الموجة الأولى للإرهاب في مصر -و التي كانت في نهاية
الأربعينات وبداية الخمسينات- بعشر سنوات كاملات، وهي المدة التي من الملاحظ
–استقرائيًا- أن الإرهاب يحتاجها لإعادة تكوين نفسه مرة أخرى والعودة ليضرب ضربته،
ففي كل مرة مما مر ومما سيأتي ذكره –إن شاء الله- كان الإرهاب يعود بعد عشر سنوات،
وهو أمر يجب الالتفات إليه، والتحسب لحسابه .
و ثانيًا: أن الموجة الثانية من الإرهاب كانت –وبلا شكٍ- أعنف وأقوى وأعتى
بكثير جدًا من الموجة الأولى، وهو يؤكد لكل صاحب بصر –فضلًا عن كل صاحب بصيرة!- أن
الإرهاب يستفيد من تجاربه، ويبني عليها، ولا يبدأ في كل مرة من الصفر، وإنما يبدأ
من حيث انتهى إليه في المرة السابقة، فينمي من قدراته ويتلافى الأخطاء التي وقع
فيها في السابق، يعظم من مكاسبه، ويؤسس عليها، بل ويغير من خططه وتكتيكاته، بخلافنا
نحن، والذين نقاومه في كل مرة بنفس الوسائل والأساليب، ونبدأ في كل مرة لا من حيث
انتهى الآخرون، ولكن من حيث بدءوا، فيتقدم الإرهاب خطوة للأمام ونظل نحن نراوح في
مكاننا، ليكون الواقع أن الإرهاب يتقدم خطوتين للإمام، أو أننا نرجع للوراء خطوتين،
أو كلاهما معًا!
و بناءً عليه فإنني أقرر أننا لو أردنا –إرادة حقيقة- أن نقضي على
الإرهاب ونقتلعه من جذوره أن نغير من أساليبنا واستراتيجياتنا في محاربة الإرهاب، لنكسر
تلك الحلقة اللعينة التي ندور فيها، وحتى لا نورث للأجيال التي تأتي بعدنا نارًا
تحت الرماد، توشك أن تحرقهم، فيلعننا أبنائنا وأحفادنا، بسبب ذلك الميراث الخبيث
الذي تركناه لهم، بدلًا عن أن نورثهم خيرًا وسلامًا ونماءً .
و ما يزال حديثنا موصلًا حول موجات الإرهاب اللعينة في المقال القادم
-إن شاء الله- ،و الذي نرجو من خلاله أن نساهم –و لو مساهمة يسيرة- في أن نزرع
الوعي في العقول والقلوب، كي لا يتكرر التكرار .
آراء حرة
كي لا يتكرر التكرار! (2)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق