فى عام ١٩٢٣ روع المصريون بالأخبار التى جاءت من لندن عاصمة الضباب، عن الجريمة الفظيعة التى راح ضحية لها المليونير المصرى الشاب على بك كامل فهمى، الذى أطلقت عليه زوجته الفرنسية مرجريت النار، فأودت بحياته فى أحد أكبر فنادق العاصمة البريطانية.
ويروى الدكتور يونان لبيب رزق قصة المحاكمة المثيرة، التى تحولت من محاكمة لزوجة فرنسية قاتلة إلى محاكمة للزوج القتيل المجنى عليه، وأيضًا إلى محاكمة للرجل الشرقى والشرق نفسه!
يقول د. يونان لبيب رزق:
«بدأت المحاكمة يوم الثلاثاء ١١ سبتمبر عام ١٩٢٣، فى إحدى المحاكم اللندنية، ذات القاعات الصغيرة فى العاصمة البريطانية، ووصفها مراسل «الأهرام» بأن عدد مقاعد المتفرجين فيها لا يزيد على عشرين مقعدًا، مخصصة للمحامين والصحفيين وجمهرة قليلة حصلت على تذاكر الحضور، ويبدو أن المسئولين عن المحاكمة تصوروا فى بداية الأمر أنها لن تكون سوى قضية عادية لن يقبل عليها أحد.
غير أن تطورات المحاكمة خلال اليومين التاليين أدت إلى تهافت الجمهور على حضور المحاكمة، وبعد امتلاء القاعة عن آخرها، كان هناك طابور بلغ عدد أفراده الخمسين، واقفين على باب القاعة، ينتظر كل منهم خروج أى من الحضور ليحل محله.
ومن الطريف أن بعض هؤلاء كان يبيع مكانه لأحد المتلهفين على الحضور إذا اقترب دوره!».
ويصور د. يونان لبيب رزق منصة القضاة فى المحاكمة الشهيرة:
«هيئة المحكمة ضمت إلى جانب القاضى والادعاء اثنى عشر محلفًا، غير أن البطل الذى فرض وجوده على الجميع كان «السير مارشال هول»، محامى المتهمة، الذى رأس هيئة الدفاع عنها، والتى كانت مكونة من ثلاثة أفراد.
وكان «مارشال هول» هو الرجل الذى حول القضية من مجرد جناية عادية لها أطرافها المحددون إلى محاكمة للعادات الشرقية، بكل ما ترتب على ذلك، من أنها تحولت إلى قضية رأى عام، انحاز فيها البريطانيون والفرنسيون إلى مدام مرجريت، التى اعتبروها ضحية لتخلف الشرق وهمجيته.
بينما وقف المصريون وبعض العرب يدافعون عن عاداتهم وتقاليدهم، وبدا وكأن لا لقاء بين الطرفين، على حد تعبير الشاعر الإنجليزى الشهير!».
ويتحدث د. يونان لبيب رزق عن الخطة التى ابتدعتها الزوجة الفرنسية مرجريت، للنجاة من عقوبة تهمة قتل زوجها المصرى على كامل فهمى.
فيقول:
«الخطة التى ابتدعتها الجانية للنجاة من عواقب جريمتها كانت متعددة الجوانب، فقد لجأت للمحامى البريطانى الشهير «مارشال هول»، الذى يحمل لقب سير، لشهرته العريضة فى عالم المحاماة، رغم الأتعاب الجسيمة التى كان يتقاضاها، والتى بلغت حسب رواية «الأهرام» ثلاثة آلاف جنيه، وألفى جنيه لمساعدة الأول، فضلًا عن خمسمائة لمساعدة الثانى، وهى مبالغ جسيمة بتقديرات العصر.
وخصصت مدام مرجريت مبلغ ٤٥٠٠ جنيه للصحف فى لندن وباريس، لجذب الرأى العام، وتقوية شعور العطف عليها، وتجسيم شناعة الزوج الشرقى، وما تعانيه الزوجة فى مصر، خاصة إذا كانت أوروبية متمدنة.
وليس من شك أن صاحبتنا قد حصلت على تلك الأموال التى أنفقتها عن سعة للإفلات من جريمتها من الزوج القتيل، خاصة أنها تنحدر من أصول اجتماعية متواضعة، فقد كان والدها مجرد سائق!».
***
وفى كتابه «جرائم واغتيالات القرن العشرين» يروى عبد الحليم الجندى بأسلوب خاص ملخص محاكمة مرجريت فهمى، وقصة مرافعة المحامى البريطانى الشهير دفاعًا عن الزوجة الفرنسية المتهمة بقتل زوجها قائلًا:
«لعل خصائص مارشال هول كمحام قد اجتمعت فى قضية «مرجريت ف...»، ومن حقها علينا أن نقدمها على غيرها لذلك، ولما تثيره فى المصريين من شجون، فلقد اندفع مارشال هول فى مرافعته بعبارات جارحة احتج عليها النقيب المصرى سنة ١٩٢٣، واعتذر مارشال بأنه لا يعنى مصر، ولا الشرق وإنما يقصد المجنى عليه».
كان المرحوم على كامل فهمى ومعه زوجته الباريسية الحسناء مرجريت فهمى، وسكرتيره سعيد أفندى يقيمون بفندق سافوى فى لندن ليلة ١٠ يوليو سنة ١٩٢٣، وكان الفتى فى الثانية والعشرين من عمره، يحمل فى لندن اسم «البرنس على بك»! تعرف على السيدة «مرجريت لوران» بباريس، فدعاها إلى مصر حيث بنى بها فى ديسمبر سنة ١٩٢٢، ولم يكد يتم القران حتى تنافر الشخصان فتنابذ الزوجان.
ولما جلسا يتناولان وجبة العشاء فى مساء ٩ يوليو، قصد رئيس فرقة الموسيقى أن يسألها عن أى الأدوار يعزف لها؟ فأجابت:
«شكرًا، إن زوجى سيقتلنى خلال أربع وعشرين ساعة، فلست مشوقة إلى الألحان..!»، وفى الثانية صباحا كانت لندن تئن تحت عاصفة هوجاء، وكانت تجتاح فندق سافوى عاصفة أخرى، حين سمع أحد الحمالين طلقات ثلاثًا متتالية، فراح يتقصى فإذا «البرنس» فى مباذله، مضرجا بدمه، ملقى على الثرى، يسيل النزيف من فمه، وإلى جواره مسدس ألقت به زوجته، وقالت لمدير الفندق:
«ماذا سيصنعون بى؟ يا سيدى لقد تزوجته منذ ٦ شهور، ولقيت أشد ما قاسيت!!».
وقالت للطبيب: «لقد سحبت الزناد ثلاث مرات..».
وكان معلوما أنها تحمل مسدسًا لأنها تحمل حلاها فى حقائبها.
لكن لندن ليست كباريس فى هتافها للجرائم العاطفية، فكان مصير المتهمة مقررًا إلى المشنقة.
لم يتخل عنها أصدقاؤها، فبدأت الاستعلامات فى شتى بقاع باريس لجمع التحريات عن سمعة القتيل، وجىء باثنين من الشباب بقيا رهن الدفاع ليشهدا بحقيقة أخلاق «الأمير»، وعهد إلى مارشال هول فى الدفاع.
وفى ١٠ سبتمبر، نظرت القضية برئاسة قاض كان من قبل محاميًا يساعد مارشال هول فى القضايا.
وحضر الأستاذان عبدالفتاح رجائى وعبدالرحمن البيلى من المحامين المصريين يراقبان الدفاع عن سمعة القتيل.
وسمعت شهادة السكرتير سعيد، فى اليوم الأول، وقدم الدفاع للمحكمة صحيفة مصرية تحوى رسمًا كاريكاتوريًا كتبت تحته «النور.. وظل النور وخيال الظل»، يراد به على فهمى وسكرتيره سعيد.
استجوب مارشال هول السكرتير سعيد أربع ساعات كاملة، ليستخلص منه الحقيقة عن حياة القاتلة فى كنف القتيل، وإليك مثلا:
س: هل قلت للبوليس إنك حاولت أن تثنيه عن البناء بها؟
ج: نعم.
س: هل قلت إنه رجل شرقى مضطرب العاطفة.
ج: نعم.
س: هل كان مولعًا بها عندئذ؟
ج: نعم، كان مشغوفًا بها حقًا.
ثم تلا المحامى «مارشال هول» خطابا يتوسل به القتيل إليها جاء فيه: «... إنك تبدين لى حفوفة بهالة من الأحلام، يا شعلة حياتى، إننى أراك وعلى مفرقك إكليل قد احتفظت به لأقدمه إليك يوم تطأ أقدامك أرض أجدادى الفاتنة..».
وانتقل إلى حياتهما الزوجية، فتلا كتابًا منه إلى أختها عقب الزواج، جاء فيه: «لقد أخذت بسبيل تعليمها، فلم أتناول معها أمس غداء، ولا عشاء، وتركتها فى المسرح، فعل ذلك يلزمها أن تخضع لرغباتى، على الرجل أن يتصرف مع النساء بحزم وقسوة».
وبين الدفاع كيف كان هذا الزوج المليونير يركب زوجته الترام..
وفى الأسبوع القادم نكمل نص كلام الشاهد سعيد.