قد يبدو للبعض أن علم النفس بوصفه علمًا، ينبغى أن يظل فى مجال التجارب المعملية المنضبطة، وأن يظل علماء النفس قابعين فى معاملهم يجرون تجاربهم الدقيقة المنضبطة. وليس من شك فى أهمية المعامل والتجارب المعملية والبحوث الإمبيريقية؛ ولكن للعلاقة بين ذلك كله وحاجات المجتمع المباشرة رواية أخرى.
بينما كان بعض من أبرز علماء النفس الأمريكيين ـ مثل چيمس، وأنجل، وكار ـ معنيين بتطوير تخصصاتهم فى الجامعات والمعامل الأكاديمية، كان علماء آخرون يطبقونه فى مواقع خارج الجامعات، فيما يمكن أن نطلق عليه «علم النفس التطبيقي».
لقد أخذ علماء النفس التطبيقيون علم النفس الخاص بهم إلى العالم الواقعى، إلى المدارس، والمصانع، ووكالات الإعلان، وساحات القضاء، وعيادات إرشاد الطفل، ومراكز الصحة النفسية. وقد أدى ذلك إلى تغيير طبيعة علم النفس الأمريكى تغييرًا جذريًا أكثر مما فعله المؤسسون الأكاديميون، وقد كتب عالم النفس الأمريكى الشهير ستانلى هول، أن أفكار ڤونت مؤسس علم النفس كما نعرفه اليوم، لم تكن مسايرة للمناخ السائد آنذاك، بل كانت منفرة للطباع والروح الأمريكية، حيث الحاجة ملحة لعلم نفس يمكن استخدامه أو توظيفه، وقد اعترف عالم النفس البنيانى الكبير تتشنر بالتغيير الشامل فى علم النفس الأمريكى، فكتب عام ١٩١٠ يقول «إذا طُلب من المرء أن يوجز ويلخص فى عجالة اتجاه علم النفس خلال العشر سنوات الماضية، سيكون الرد أن علم النفس اتجه بشكل محدد نحو التطبيق».
ويعكس تراث النشر العلمى المتخصص هذا التأثير بوضوح، ففى عام ١٩٠٠، تم نشر ٢٥٪ من المقالات البحثية فى دوريات علم النفس الأمريكية التى تتعامل مع علم النفس التطبيقى، فى مقابل ٣٪ اشتملت على الاستبطان الذى قامت عليه جهود ڤونت، مؤسس علم النفس الحديث، بما يعنى أن علم النفس التطبيقى قد تجاوز تلك الحدود كثيرًا، ولعل نموذجًا تاريخيًا طريفًا يوضح تلك النقلة التاريخية.
أثناء ليلة الخميس الموافق ٢٠ أكتوبر ١٩٠٩، أوقفت القوات الأمريكية الفيدرالية شاحنة على الطريق الرئيسى خارج مدينة شتانوجا تنسى. نظرًا لأنها كانت تحمل عقارًا محرمًا طبقًا للقوانين الحديثة التى تضمنها القانون الفيدرالى للأغذية والعقاقير الصادر عام ١٩٠٦، إذ كانت هذه السيارة تحمل شحنة من ٤٠ برميلًا كبيرًا و٢٠ برميلًا صغيرًا تحتوى خلاصة الكوكاكولا، وقد اعتبرتها الحكومة الأمريكية مادة محظورة، حيث يدخل فى مكوناتها الكافيين الذى يعتبر مادة تسبب إدمانًا وأنها تتاح دون تنبيه مسبق للكافة ومنهم الأطفال؛ وكانت إدانة شركة كوكاكولا بهذه التهمة تهددها بالإفلاس.
ومع اقتراب تاريخ المحاكمة، أدرك المحامون أنهم ليس لديهم ما يثبت أن مقدار الكافيين الموجود فى تلك المشروبات الغازية، ليس له آثار ضارة على السلوك البشرى أو العمليات العقلية، وأنهم فى حاجة إلى أن يجندوا عالم نفس لإجراء برنامج بحثى دقيق؛ ويأملون أن تثبت النتائج وجهة نظرهم.
وفى البداية طلبوا جيمس ماكين كاتل، أحد علماء النفس المشهورين فى الولايات المتحدة، ولكنه لم يكن مهتمًا بذلك شأنه فى ذلك شأن الكثيرين. ولم يجدوا سوى رجل واحد شغوف بقبول ما وصفه بأنه فرصة عظيمة؛ وكان اسمه هارى هولنجورث H.Hollingworth.
وكتب هولنجورث موضحًا دوافعه بوضوح «لدىّ دافع مضاعف للعمل، حيث إننى أحتاج للمال، وهذه كانت فرصة لقبولى هذا العمل من أجل الاحتفاظ بمعاش وأتعاب مرضية جدًا مناسبة لوقتى وخدماتى».
كان هولنجورث يعمل مدرسًا فى كلية بارنارد بمدينة نيويورك، مقابل أجر زهيد جدًا يكفى للعيش فقط. ولم تتمكن زوجته لى سيتر من الحصول على وظيفة التدريس، ولم تنجح فى تسويق قصصها القصيرة، وكانت تأمل أن تكمل دراساتها العليا، وحال دون ذلك عجزها عن تحمل نفقاتها. ولكن بفضل قضية الكوكاكولا، تم تعيينها مديرًا مساعدًا لبرنامج البحث، وبالتعاون مع هولنجورث، بدأت تكسب مالًا كافيًا لكى يشقا طريقهما.
وعلى الرغم من إغراء الكسب المادى، فقد أصر هولنجورث على الالتزام بالمعايير الأخلاقية العلمية، ولم يهتم قط بتوفير الإجابات أو الردود التى تطلبها الشركة، وقد وافقت شركة الكوكاكولا على شروطه، وسمحت له بنشر نتائجه، حتى لو أدت لضرر للشركة؛ وألا تستخدم نتائجه فى الإعلانات، بغض النظر عما إذا كانت هذه النتائج إيجابية أم لا.
وقد استمر برنامج البحث المكثف ٤٠ يومًا، فى أفضل المعامل المجهزة فى أفضل جامعة، وشمل تقريبًا حوالى ٦٤ ألف مقياس فردى، وتم تسجيل البيانات على مدى واسع من الوظائف الحركية والعقلية، تحت ظروف تقديم جرعات متنوعة من الكافيين، ولم يتبين وجود أية آثار ضارة أو تدهور جوهرى فى الأداء.
وكسبت شركة الكوكاكولا القضية، وعلى الرغم من أن المحكمة العليا قد نقضت الحكم فيما بعد، وأحالت القضية إلى محكمة أخرى، واستمر تداولها حتى ١٩١٦، وانتهى الأمر بنوع من التسوية لسنا بصدد الخوض فى تفصيلاتها.
ما يعنينا هو ما تركته القضية من أثر على عائلة هولنجورث، وعلى علم النفس ككل. فقد تأكد أن البحث التجريبى فى علم النفس يمكن إنجازه بشكل علمى صارم، دون تحيز مسبق لنتائج معينة، طالما نجح الباحث فى فرض شروطه على جهات التمويل، ومن ناحية أخرى، فقد تأكد أن علماء النفس يمكن أن تتم مكافأتهم ماليًا، وبنجاح من خلال وظائف فى علم النفس التطبيقى، دون أن يتعارض ذلك مع استقامتهم المهنية.
بينما كان بعض من أبرز علماء النفس الأمريكيين ـ مثل چيمس، وأنجل، وكار ـ معنيين بتطوير تخصصاتهم فى الجامعات والمعامل الأكاديمية، كان علماء آخرون يطبقونه فى مواقع خارج الجامعات، فيما يمكن أن نطلق عليه «علم النفس التطبيقي».
لقد أخذ علماء النفس التطبيقيون علم النفس الخاص بهم إلى العالم الواقعى، إلى المدارس، والمصانع، ووكالات الإعلان، وساحات القضاء، وعيادات إرشاد الطفل، ومراكز الصحة النفسية. وقد أدى ذلك إلى تغيير طبيعة علم النفس الأمريكى تغييرًا جذريًا أكثر مما فعله المؤسسون الأكاديميون، وقد كتب عالم النفس الأمريكى الشهير ستانلى هول، أن أفكار ڤونت مؤسس علم النفس كما نعرفه اليوم، لم تكن مسايرة للمناخ السائد آنذاك، بل كانت منفرة للطباع والروح الأمريكية، حيث الحاجة ملحة لعلم نفس يمكن استخدامه أو توظيفه، وقد اعترف عالم النفس البنيانى الكبير تتشنر بالتغيير الشامل فى علم النفس الأمريكى، فكتب عام ١٩١٠ يقول «إذا طُلب من المرء أن يوجز ويلخص فى عجالة اتجاه علم النفس خلال العشر سنوات الماضية، سيكون الرد أن علم النفس اتجه بشكل محدد نحو التطبيق».
ويعكس تراث النشر العلمى المتخصص هذا التأثير بوضوح، ففى عام ١٩٠٠، تم نشر ٢٥٪ من المقالات البحثية فى دوريات علم النفس الأمريكية التى تتعامل مع علم النفس التطبيقى، فى مقابل ٣٪ اشتملت على الاستبطان الذى قامت عليه جهود ڤونت، مؤسس علم النفس الحديث، بما يعنى أن علم النفس التطبيقى قد تجاوز تلك الحدود كثيرًا، ولعل نموذجًا تاريخيًا طريفًا يوضح تلك النقلة التاريخية.
أثناء ليلة الخميس الموافق ٢٠ أكتوبر ١٩٠٩، أوقفت القوات الأمريكية الفيدرالية شاحنة على الطريق الرئيسى خارج مدينة شتانوجا تنسى. نظرًا لأنها كانت تحمل عقارًا محرمًا طبقًا للقوانين الحديثة التى تضمنها القانون الفيدرالى للأغذية والعقاقير الصادر عام ١٩٠٦، إذ كانت هذه السيارة تحمل شحنة من ٤٠ برميلًا كبيرًا و٢٠ برميلًا صغيرًا تحتوى خلاصة الكوكاكولا، وقد اعتبرتها الحكومة الأمريكية مادة محظورة، حيث يدخل فى مكوناتها الكافيين الذى يعتبر مادة تسبب إدمانًا وأنها تتاح دون تنبيه مسبق للكافة ومنهم الأطفال؛ وكانت إدانة شركة كوكاكولا بهذه التهمة تهددها بالإفلاس.
ومع اقتراب تاريخ المحاكمة، أدرك المحامون أنهم ليس لديهم ما يثبت أن مقدار الكافيين الموجود فى تلك المشروبات الغازية، ليس له آثار ضارة على السلوك البشرى أو العمليات العقلية، وأنهم فى حاجة إلى أن يجندوا عالم نفس لإجراء برنامج بحثى دقيق؛ ويأملون أن تثبت النتائج وجهة نظرهم.
وفى البداية طلبوا جيمس ماكين كاتل، أحد علماء النفس المشهورين فى الولايات المتحدة، ولكنه لم يكن مهتمًا بذلك شأنه فى ذلك شأن الكثيرين. ولم يجدوا سوى رجل واحد شغوف بقبول ما وصفه بأنه فرصة عظيمة؛ وكان اسمه هارى هولنجورث H.Hollingworth.
وكتب هولنجورث موضحًا دوافعه بوضوح «لدىّ دافع مضاعف للعمل، حيث إننى أحتاج للمال، وهذه كانت فرصة لقبولى هذا العمل من أجل الاحتفاظ بمعاش وأتعاب مرضية جدًا مناسبة لوقتى وخدماتى».
كان هولنجورث يعمل مدرسًا فى كلية بارنارد بمدينة نيويورك، مقابل أجر زهيد جدًا يكفى للعيش فقط. ولم تتمكن زوجته لى سيتر من الحصول على وظيفة التدريس، ولم تنجح فى تسويق قصصها القصيرة، وكانت تأمل أن تكمل دراساتها العليا، وحال دون ذلك عجزها عن تحمل نفقاتها. ولكن بفضل قضية الكوكاكولا، تم تعيينها مديرًا مساعدًا لبرنامج البحث، وبالتعاون مع هولنجورث، بدأت تكسب مالًا كافيًا لكى يشقا طريقهما.
وعلى الرغم من إغراء الكسب المادى، فقد أصر هولنجورث على الالتزام بالمعايير الأخلاقية العلمية، ولم يهتم قط بتوفير الإجابات أو الردود التى تطلبها الشركة، وقد وافقت شركة الكوكاكولا على شروطه، وسمحت له بنشر نتائجه، حتى لو أدت لضرر للشركة؛ وألا تستخدم نتائجه فى الإعلانات، بغض النظر عما إذا كانت هذه النتائج إيجابية أم لا.
وقد استمر برنامج البحث المكثف ٤٠ يومًا، فى أفضل المعامل المجهزة فى أفضل جامعة، وشمل تقريبًا حوالى ٦٤ ألف مقياس فردى، وتم تسجيل البيانات على مدى واسع من الوظائف الحركية والعقلية، تحت ظروف تقديم جرعات متنوعة من الكافيين، ولم يتبين وجود أية آثار ضارة أو تدهور جوهرى فى الأداء.
وكسبت شركة الكوكاكولا القضية، وعلى الرغم من أن المحكمة العليا قد نقضت الحكم فيما بعد، وأحالت القضية إلى محكمة أخرى، واستمر تداولها حتى ١٩١٦، وانتهى الأمر بنوع من التسوية لسنا بصدد الخوض فى تفصيلاتها.
ما يعنينا هو ما تركته القضية من أثر على عائلة هولنجورث، وعلى علم النفس ككل. فقد تأكد أن البحث التجريبى فى علم النفس يمكن إنجازه بشكل علمى صارم، دون تحيز مسبق لنتائج معينة، طالما نجح الباحث فى فرض شروطه على جهات التمويل، ومن ناحية أخرى، فقد تأكد أن علماء النفس يمكن أن تتم مكافأتهم ماليًا، وبنجاح من خلال وظائف فى علم النفس التطبيقى، دون أن يتعارض ذلك مع استقامتهم المهنية.