قد يبدو للبعض أن علم النفس بوصفه علمًا ينبغى أن يظل فى مجال التجارب المعملية المنضبطة؛ وأن يظل علماء النفس قابعين فى معاملهم يجرون تجاربهم الدقيقة المنضبطة، ولذلك فإن قطاعًا كبيرًا من أبناء التخصصات العلمية، يحجمون عن مخاطبة جمهور العامة، وقد يرجع ذلك الإحجام إلى ميل للترفع بالعلم المتخصص عن مخاطبة العامة، أو لعله يرجع إلى افتقاد هؤلاء للقدرة على تبسيط علمهم وللمهارات اللازمة لمخاطبة الجمهور. ولا يقف الأمر عند حد الإحجام، بل قد يتخطاه إلى إدانتهم من أبناء تخصصهم باعتبارهم يبتذلون علمهم سعيًا وراء الشهرة الجماهيرية، ويعد هوجو مونستربرج Hugo Munsterberg نموذجًا يجسد ذلك.
ولد مونستربرج فى أول يونيو عام ١٨٦٣ فى مدينة دانزيج الألمانية، وكان ضمن قلة من علماء النفس الذين يجمعون بين القدرة على مخاطبة أهل التخصص من علماء النفس، والقدرة بل والشغف بمخاطبة جمهور غير المتخصصين. لقد كتب فى فترة مبكرة مجموعة من المقالات تحت عنوان: «سمات الأمريكى كما تبدو للألماني»، ولم يلبث مع مطلع القرن العشرين أن بدأ ينشر فى الصحف والمجلات العامة مجموعة من الموضوعات المثيرة للجدل، فقد دافع فى بعض هذه المقالات، عن أهمية الحفظ والصم فى مواجهة دعاوى المصلحين التربويين الذين كانوا يرون فى الحفظ آفة مدمرة للتربية كما ينبغى أن تكون. وهاجم فى بعض هذه المقالات الدعوة إلى إصدار تشريعات قانونية لحظر الكحول فى مواجهة انتشار هذه الدعوة فى الولايات المتحدة آنذاك، وكتب فى بعض تلك المقالات مؤكدا أن المرأة لا تصلح من الناحية النفسية لتقلد وظائف القضاء، وذلك فى مواجهة الدعاوى المتزايدة آنذاك للمناداة بالمساواة بين المرأة والرجل.
ولهذه الخاصية ـ أى مخاطبة غير المتخصصين ـ ميزاتها، ولها أيضًا مغارمها. إنها قد تكفل لكتابات صاحبها قدرًا من الشهرة وذيوع الصيت، دون أن يعنى ذلك أن صاحبها سوف يحظى بقدر متميز من القبول سواء لدى الرأى العام، أو لدى أبناء نفس تخصصه؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يطلق بعض معاصري مونستربرج على كتاباته تعبير «علم النفس الأصفر»، على نمط تعبير «الصحافة الصفراء»
أما على المستوى الجماهيرى، فإن كتابات مونستربرج الموجهة للعامة، قد أثارت عليه سخط العديد من الجماعات المؤثرة فى الرأى العام الأمريكى آنذاك. لقد هاجمه أنصار المرأة، وأنصار تطوير التعليم، فضلًا عن سخط أنصار الدعوة لإصدار تشريعات قانونية تمنع إنتاج وتعاطى الخمور، إلى حد إثارة شائعات قوية حول قيام أصحاب صناعات الكحول، بتمويل بعض مقالاته وبحوثه فى هذا الصدد. ولعل ذلك يذكرنا بما أثاره إيان باركر أستاذ علم النفس فى معهد بولتون بالمملكة المتحدة، عضو جماعة علم النفس الراديكالى عبر الإنترنت فى ١٢/٩/٩٧ بمناسبة وفاة عالم النفس البريطانى الشهير هانز آيزنك من تأكيد لوقوف شركات التبغ العالمية خلف تمويل بحوث آيزنك التى انتهى فيها إلى أن العلاقة بين التدخين والإصابة بالسرطان غير مؤكدة علميًا.
وفى عام ١٨٩١ نشر چورچ إلياس موللر نقدًا موجعًا لمونستربرج، متهمًا إياه بأنه من أصحاب علم النفس البدائى Wild PSYCHOLOGY القائم على الافتراضات، ولقد كان موللر آنذاك عالمًا ذائع الصيت، ومعمله فى جوتنجن لا يفوقه إلا معمل فونت. وتدخل عالم النفس الشهير وليام جيمس مدافعًا عن مونستربرج كما لو كان أبًا يحمى ابنه الجريح، فكتب له فى ٨/٧/١٨٩١ خطابًا جاء فيه: «إنه لأمر شائن، حين يقدم عالم راسخ مثل موللر، بدلًا من تقديم النصح الأبوى الحنون لشاب مثلك، بإبداء سعادته الخبيثة إذ يلقيه أرضًا، ويتقافز فوق جثته، لا تهتم بذلك، لا تغضب، فلتدر له خدك الآخر، لا ترد ردًا غير مهذب، ولسوف يكون لك بذلك عظيم الفضل». وقد استجاب مونستربرج بشجاعة وكتب إلى چيمس فى ٢٨/٧/١٨٩١ قائلًا إن نقد موللر «لم ينجح فى إثارة أية مشاعر غضب عميقة فى نفسه»، وأنه «يرفض استخدام لغة الحوارى gutter snipe فى رده عليه». وقد علق على ذلك أحد مؤرخى علم النفس قائلًا «إنها أزمة مهنية، عالم ألمانى راسخ يهاجم اتجاه مونستربرج العلمى، ولكن عالمًا أمريكيًا راسخًا يقدم له العون».
وهكذا، فرغم أن مونستربرج كرس نفسه من أجل أمريكا منذ وطأتها قدماه، ولكنه ظل دائمًا مخلصًا لوطنه الأصلى، ومن ثم فقد شرع منذ بداية الحرب العالمية الأولى، يكتب مدافعًا عن الدوافع والمثل الألمانية. وقد أدى به ذلك الموقف إلى التعرض لنقد عنيف، وهجوم قاسٍ، وفقدان للعديد من الصداقات الراسخة.
ولم ينته اشتباك علماء النفس بعلمهم مع قضايا الشارع بنهاية مونستربرج؛ فلم تمض سنوات قليلة، حتى وقع ما يمكن أن نطلق عليه واقعة الكوكاكولا فى تاريخ علم النفس التطبيقى.
وللحديث بقية..