تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود ومع زيادة نشاط جماعات الإسلام السياسي بممارساتها الإرهابية، ونشأة ما يعرف بحركة حقوق الإنسان ظهر مصطلح “,”الآخر“,” في أدبيات بعض السياسيين ومراكز الأبحاث الخاصة والمنظمات الحقوقية مرتبطًا بالإشارة الى ما أسمتها تلك الهيئات بالأقليات المصرية.
وبدأت محاولاتها الحثيثة لترسيخ هذا المفهوم عبر تنظيم ورش عمل وأنشطة حقوقية وثقافية لنشر الوعي بين المصريين أو بالأحرى تعليمهم كيف يقبلون الآخر الذي ينتمي الى الأقلية المسيحية أو النوبية.
فيما يبدو كان هناك اتفاق ضمني بين جماعات الإسلام السياسي وبعض منظمات حقوق الإنسان للعمل سويًا على تفتيت وتجزئة المجتمع المصري، فبينما الإسلاميون يقسمون المصريين من المسلمين الى فسطاطين، فسطاط المؤمنين الملتزمين، وفسطاط الكفار الفجرة الخارجين عن الدين، كانت بعض المنظمات الحقوقية تحاول أن تلعب دور المشرط الذي يقطع أوردة النسيج المصري ويقسمه الى مجموعة أقليات منها ما هو مسيحي أو نوبي.
الحق يقال هذه المحاولات لم تتجه نحو بدو مصر المنتشرين في صحاريها وعلى تخوم مدنها بطول شريط وادي النيل، والسبب في رأيي يكمن في أن البدو المصريين بثقافتهم ونمط حياتهم يعتبرون بالنسبة للثقافة السائدة في وجدان سكان النهر “,”آخر“,” له لغته وعاداته وتقاليده، بل إن التضاريس والجغرافيا والمناخ الذي يعيشون فيه مختلف تمامًا، فليس هناك من يخطئ التمييز بين رمال الصحراء ذات اللون الأصفر وأرض “,”كيميت“,” السوداء التي كونها طمي النيل.
ربما لهذه الأسباب لم تنشغل تلك المنظمات بسكان البادية فالقسمة واضحة المعالم، أما مجتمع النهر المتماسك المتجانس فكان هو المستهدف بعمليات التقسيم والتمييز ولأن هذا الأخير ـ أقصد مجتمع النهرـ قديم قدم الأزل بتنوعه وتعدده باءت كل تلك المحاولات بالفشل الذريع، فلا يزال الوجدان المصري لا يقبل القسمة على أساس الدين أو العرق أو اللون أو الجنس، ولا يعترف أصلاً بأن داخله أقليات، وبمعنى أوضح يرفض هذا الوجدان تصنيف المسيحيين المصريين كأقلية والأمر ذاته بالنسبة للنوبيين.
حسنًا، مجتمع النهر إذن يعترف بالتعدد والتنوع، بل إنه يزهو به ويعتبره دليلاً على تحضره، لكن هذا المجتمع ذاته وفي الوقت الذي يرى فيه حدوده الجغرافية تمتد من صحراء النقب ورفح شرقًا الى السلوم غربًا وصولاً الى حلايب وشلاتين وجبال العوينات في أقاصي الجنوب، هذا المجتمع نفسه لا يكاد يرى سكان تلك البوادي النائية وهذه مشكلة يجب الاعتراف بها أولاً.
ومن المفارقات على سبيل المثال أن نجد المنتمين للتيار القومي العروبي يتجاهلون في سلوكهم السياسي ونشاطهم الثقافي هذه البادية التي تشكل مكوناتها السكانية من القبائل والعشائر العربية الامتداد الثقافي الحقيقي للمحيط العربي داخل مصر، تمامًا كما نفعل في الاحتفال بانتصارات أكتوبر وأعياد تحرير سيناء، نحتفي بالدور الذي قام به فرسان البدو في مواجهة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بينما نكتفي بالحديث عن تنمية أرضهم دونما أن نهتم بالإنسان.
هنا بالضبط يعبر مصطلح “,”الآخر“,” عن نفسه بجلاء ونجد له ترجمة حرفية ودقيقة بالطريقة التي يتعامل بها وجدان المركز أو بالأحرى “,”سكان النهر“,” مع مواطنيهم في الأطراف.
ها نحن نطالبهم بالذود عن حدودنا ثم بالكاد نذكر بطولاتهم دون أن ندرك أنهم عندما يقاتلون ويقدمون أرواحهم فإنهم يفعلون ذلك دفاعًا عن أرضهم ووطنهم من تلقاء أنفسهم لا استجابة لأحد.
هكذا حاربوا الاحتلال الإسرائيلي وهكذا أيضًا يشكلون حاضنة لقوات الجيش والشرطة في حربنا المقدسة على الإرهاب.
وعندما نتحدث عن التنمية لا يكون محورها الإنسان في البادية، بل إن حديث التنمية قاصر على بادية سيناء دون باقي بوادينا الممتدة عبر الصحراء الغربية وبطول سلاسل جبال البحر الأحمر، وهو حديث أشبه بالنفاق أو بالأحرى الرياء لأننا نبدو فيه ننافق أخوتنا من بدو سيناء ليظلوا حراسًا أمناء على حدودنا.
وشواهد حديث النفاق هذا تتجلى في أن خطط التنمية تتجاهل المواطن البدوي وثقافته ولا تقترب منه على الإطلاق، ثم إن هذا الحديث عن حجم ثرواتنا الطبيعية في أرض الفيروز، جعلنا نحن “,”سكان النهر“,” بالنسبة لمواطن البادية في موضع الانتهازي الذي يريد استخدام صاحب هذه الأرض واستغلاله فقط للاستفادة من تلك الثروات.
لا أدعي أنني محلل نفسي أو أن هناك دراسة قرأتها تحدثت عن مثل هذه الأمور، لكن مناقشات مطولة مع بعض أصدقائي من المصريين البدو في سيناء ومطروح وعرب الشرفا بحلوان جعلتني أتلمس هذه الحقائق.
أخطرها أن المواطن البدوي في شبه جزيرة سيناء يرى في حديث التنمية الاقتصادية متناقضين، أولهما الانتهازية لاستغلال ثروات أرضه، وثانيهما عدم تطبيق هذه الانتهازية بعدم تنفيذ أي من الخطط والمشروعات التنموية التي وعدت بها سيناء.
هذان المتناقضان جعلا المواطن البدوي يستشعر أن “,”سكان النهر“,” يشككون في وطنيته وانتمائه للدولة المصرية، لذلك هم حريصون على نفاقه طوال الوقت، هو لا يشعر أن “,”سكان النهر“,” يثقون فيه كمواطن صالح.
الحال ليس بأفضل في الصحراء الغربية، حتى سنوات ليست ببعيدة كان بعض مواطني الصحراء الغربية من البدو يحملون بطاقات “,”ص ش“,” أصدرها لهم النظام الليبي السابق، حيث كان العقيد معمر القذافي ينظر إليهم كمواطنين ليبيين يسكنون الجانب الشرقي من الصحراء الكبرى.
الحقيقة أن هذا النوع من المشكلات يتعرض إليه معظم البدو المصريين حتى هؤلاء الذين يسكنون بين ظهرانينا في قلب الوادي وعلى شاطئ النهر.
على سبيل المثال بدو حلوان، حيث لاتزال الجهات الحكومية تتعامل معهم بنظرة من الريبة وعدم الثقة خاصة جهاز الشرطة، فبعض رجال البوليس يعامل البدوي كتاجر مخدرات أو مهرب للسلاح رغم أن بدو حلوان لاسيما من أبناء قبائل “,”العميرات والعمارين“,” هم الذين يتولون عملية حراسة أنابيب البترول وشبكات الكهرباء في الصحراء الممتدة من منطقة الشرفا بحلوان الى مدينة السويس الى الشمال الشرقي منها والى أسيوط ومناطق أخرى، فأبناء الصحراء أدرى بشعابها.
يبقى أن أؤكد مرة أخرى أن هذه الطبقة العازلة التي تفصل بين وجدان ثقافة “,”سكان النهر“,” وثقافة الأطراف هي التي ينبغي مواجهتها والعمل على إزالتها فلا تنمية قبل أن يهاجر وجدان “,”سكان النهر“,” الى البادية ليستوعب ثقافتها وتراثها وفنونها وعاداتها وتقاليدها كأحد تنويعاته لاسيما وأن للتراث البدوي بصمة في معظم فنون صعيد مصر.
لاتزال للحديث عن البدو المصريين بقية، طالما أردنا أكتوبر في ذكراها الأربعين نقطة بداية جديدة نحيي فيها الوطنية المصرية في نفوسنا أولاً حتى نستطيع أن نبدأ عملية بناء صحيحة لأركان الدولة المصرية.