كنت مع الكثيرين مندهشًا بل مأخوذًا في خضم أحداث "ثورة 25 يناير" 2011، ثم ما تبعها من مسلسل ووقائع "الربيع العربي" وتداعياته التي فرضت بل طرحت تساؤلات ينبعي الاجابة عليها بشكل عقلي: لماذا انقلبت أنقرة والدوحة على سوريا؟ ثم ما هو سر ومفتاح سيناريو الشرق الأوسط الجديد؟ ولماذا انقلب أمير قطر على والده؟ ومن ثم أردوغان التركي على معلمه وزعيمه الروحي نجم الدين أربكان؟ ما الأسباب الحقيقية للأزمة السورية وإلى أين تتجه أحداثها بل مستقبلها؟ وأخيرا دوافع نشر أسرار وثائق ويكيليكس!!
وللإجابة على التساؤلات المطروحة كان علينا العودة لأحداث تاريخية في مجمل السياق والتي تسلط الضوء على خطوات المشروع الأمريكي الاستعماري الجديد للمنطقة ضمن مجمل الصراع العالمي.. ففي عام 1992، أقرت اتفاقية "كيوتو" للحد من انبعاث الغازات في الجو وكإجراء لمنع تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري، ثم أقر الاتحاد الأوروبي هذه الاتفاقية وجعلها ملزمة لأعضائه، وبهذا أصبح الغاز أهم من النفط، هذا الغاز بالطبع موجود في إيران وروسيا الاتحادية، فهل ستسمح واشنطن بتعاظم النفوذ الروسي في أوروبا وبخاصة بعد انهيار "حلف وارسو" وبالتالي من المنطقي زوال سبب وجود حلف "الناتو".
في عام 1995 أشرفت واشنطن على صفقة انقلاب الشيخ حمد الابن على والده في قطر، ثم جرى ترسيم الحدود القطرية الإيرانية، وبدأ استخراج الغاز القطري تلبية للطلب الأوروبي ومن ثم تسييله لعدم الإمكانية الواقعية لمد أنابيب من الدوحة بمسارات أوروبا، بينما كل من البحرين وسلطنة عمان تقوم بشراء الغاز من دول أخرى، حيث إن الغاز القطري مخصص فقط للأسواق الأوروبية بهدف منافسة الغاز الروسي، وقد جاء ذلك في خضم إشعال واشنطن شرارة الصراع الشيشاني ضد موسكو لإرباكها، وتفتيت يوغسلافيا بشرارة "المجاهدين العرب الأفغان" عبر أحداث كوسوفو والبوسنة .!
وشهد عام 1996 احتواء بوتين للوضع الشيشاني وصعود نجمه، ثم تأسيس شركة "غاز بروم" الروسية العملاقة، والتي أصبحت فيما بعد محور صنع القرار الروسي، مَثَّل إدراك واشنطن لخريطة الغاز في خريطة الجغرافيا السياسية أهمية قصوى: تركمانستان، وأذربيجان، وايران، ومصر، ومن ثم حجم كميات الغاز التي كانت تعلم به واشنطن (روسيا عرفته مؤخرا) بساحل البحر الأبيض المتوسط بين فلسطين ولبنان وقبرص، وكان على واشنطن بدء التحرك في السيطرة على هذه المنابع من أجل بقائها قطبا أوحد يدير العالم، في ظل منافسة الغاز الروسي، ولأن غاز أذربيجان وتركمانستان من الصعب الوصول إليه، كونهم في ضمن النفوذ الروسي، لكن الوصول إليه فيما بعد سيطرة واشنطن على غاز المتوسط سيكون أسهل حيال إزاحة الغاز الروسي من أوروبا ومن ثم عجز موسكو عن شراء غاز أسيا الوسطي التي يمكن إرغامها لاحقا على دخول النفق الأمريكي .. لكن سيطرة واشنطن على منابع غاز المتوسط يحتاج إلى سلام في المنطقة وفق الشرعية الدولية، وهو ما يعني عمليا بداية نهاية الحلم الصهيوني !!
واختارت واشنطن الطريق الأسهل للقضاء على المقاومة اللبنانية التي تمثل عائقا كخطوة لتصفية القضية الفلسطينية، من هنا كانت الحرب علي لبنان عام 1996 (عملية عناقيد الغضب) للقضاء علي حزب الله والمقاومة، لكن فشل أهداف هذا العدوان أدى لتحرير الجنوب اللبناني عام 2000، الذي مثل نكسة أمريكية إسرائيلية، وكانت الصدمة الأكبر صعود الدب الروسي بوتين بعد إزاحة يلتسين!.
خطوات تنفيذ سيناريو الشرق الأوسط الجديد.
للحقيقة قليلون هم من تناولوا وأسهموا بكتاباتهم وتحليلاتهم في فك سر ذلك المخطط، لكني وللانصاف أذكر منهم المناضل الكاتب الصحفي الأستاذ نبيل زكي بجريدة الأهالي سبتمبر 2006، وكذلك الكاتب والأديب الأستاذ يوسف القعيد بصحيفة الأسبوع أغسطس 2006، وعلى كل بدأت واشنطن في التنفيذ العملي لتقسيم الشرق الوسط إلى دويلات طائفية وعرقية تديرها إسرائيل بالوكالة، خاصة بعد إدراكها عجز الغاز القطري عن منافسة الغاز الروسي بأوروبا، بل تزايد الطلب عليه على خلفية الانتعاش الاقتصادي لموسكو، من هنا كانت أحداث ما يسمى بهجمات سبتمبر الارهابية عام 2001 وبدايات احتلال أفغانستان تنفيذا للهدف المباشر بقطع طريق الترانزيت عن الصين وحصار كل من روسيا وإيران، ثم كانت صفقة واشنطن عام 2002 مع الأصوليين الأتراك رجب الطيب أردوغان وعبدالله جول في الإطاحة بزعامة نجم الدين أربكان، فكما كان انقلاب قطر سببه الغاز، كان صعود حزب العدالة والتنمية التركي ليحتل صدارة المسرح السياسي التركي، تلا ذلك إعلان واشنطن كتمويه عن نواياها الحقيقية إنشاء خط غاز (نابكو) وهذا الاسم له معنى اسم مقطوعة موسيقية للموسيقلر فيردي فيما سمي سبي نبوخذ الذي يمثل نصرًا للصهيونية في العراق وبدأ مسلسل احتلال العراق عام 2003!
لكن السؤال يطرح نفسه: لماذا نابكو؟ والإجابة أن واشنطن أدركت عمليا استحالة سيطرتها المباشرة على غاز آسيا الوسطى، في ظل عدم علم موسكو بغاز المتوسط واعتقاد موسكو بموت محقق لنابكو قبل ولادته! فواشنطن كانت تضمر وتخطط أولا للحصول على الغاز المصري ومن ساحل المتوسط في لبنان وفلسطين وقبرص على منحى تدمير وتقسيم سوريا ستحصل إن عاجلا أو آجلا على الغاز الإيراني بلا حرب وكنتيجة عجز موسكو عن شراء الغاز الأزري ومن ثم فقدانها لمناطق نفوذها في أوروبيا وآسيا مرة واحدة، مع السيطرة الأمريكية على العالم ككل انطلاقا من فرضية السياسي والمحلل الأمريكي فوكوياما (نهاية التاريخ وانتصار الغرب).
أحلام أردوغان العثماني
راود أردوغان حلمه بانبعاث ولادة العثمانية الثانية عبر خط نابوكو (كان مقررا العمل به عام 2014 وتأجل لأسباب لاحقة لعام 2017 والمفترض أن يبدأ بـ31 مليار مكعب يصل إلى 40 مليارا) الذي يجمع غاز المنطقة في تركيا كمحور، ليتم تصديره لأوروبا دون المرور باليونان، ومن ثم تتحول تركيا إلى دولة ثرية تضاهي السعودية إن لم تتفوق عليها! بواسطة رسوم الترانزيت، وسارع أردوغان مع إدراكه بالطبع بداية في صعوبة الوصول إلى غاز وسط آسيا في المنظور القريب، بزيارة للقاهرة وإقناع نظام مبارك بالتوقيع على اتفاقية نابوكو، وربما لم يكن مبارك يدرك أن توقيعه كان بمثابة مسمارا في نعش سلطته! لكن ما هي خطوط الصفقة الأردوغانية الأمريكية؟ والإجابة عليها تكمن في النقاط التالية :
1 – مساعدة واشنطن على بسط حزب العدالة والتنمية الأصولي في فرض هيمنته الكاملة على تركيا، والتخلص من سيطرة المؤسسة العسكرية وتصفيتها.
2- قبول أردوغان بواقع التقسيم لمصر في إطار ثلاث دويلات قبطية وسنية متشددة، ودولة للنوبيين (من هنا كان سبب العنف الطائفي المدروس الذي شهدته مصر في الأشهر الأولي بعد 25 يناير ولأول مرة يطلق الجهاز الإعلامي المصري قضايا النوبيين، ومن ثم مغزى الفراغ السياسي بمصر انتظارا لتطور مسرح العمليات على الأراضي السورية، والرسائل الضمنية عبر تفجير خطوط الغاز في مصر لموسكو) والعراق لثلاثة أخرى وسوريا لأربعة دويلات.
3– تعهد واشنطن ببسط نفوذ أنقرة على الدويلات السنية الجديدة، مع قبول أنقرة بسط النفوذ والهيمنة الإسرائيلية على بقية الدويلات المزمع تقسيمها حتى ولو بالقوة العسكرية.
4– التزام واشنطن بعدم مرور خط نابوكو عبر اليونان لكي تضمن تركيا فرض سيطرتها على كامل التراب القبرصي والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على حساب اليونان، طبعا هذا التقسيم سيشمل تركيا نفسها مع الدول الخليجية، وتؤكد كل الشواهد على موافقة أردوغان بحيث تكون تحت سيطرته دولة سنية صغيرة وغنية بدلا من دولة كبيرة بدون نفوذ بالمنطقة، وهذا ما يفسر هوسه مؤخرا بسبب الفشل حتى الآن في سقوط سوريا!
وتحركت واشنطن لتنفيذ خطواتها التالية لحصار روسيا، عبر إقناع حلفائها بالانضمام لخط نابوكو، ومن ثم اشتعلت ما يسمى "بالثورة البرتقالية" في أوكراينا، معلقا إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، في نفس الوقت شنت الحرب الإعلامية على روسيا البيضاء ولوكاتشنكو رئيسها، وبالفعل قطعت الغاز عن أوروبا طيلة أسبوعين، وكانت الرسالة الأمريكية للحلفاء بأوروبا بعدم الاعتماد على الغاز الروسي، إلا أن موسكو ردت بأن دول عبور خطوط غازها مهمة لها وبأنها ليست على استعداد حتى لو اضطرت لاستخدام القوة، ونتج عن ذلك دحر البرتقاليين وسقوطهم برضاء أوروبي!!
ولم يتوقف حدود الغضب الروسي، حيث أعلنت شركة غاز بروم الروسية عن استثمارها في مشاريع لاكتشاف الغاز بأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، في تزامن بتوقيت بإعلان أربع خطوط جديدة للغاز هي:
1- التدفق الشمالي: لمد الغاز من الشمال الروسي عبر البحر الأسود بدون المرور على روسيا البيضاء، وبالفعل بدأت خطواته ومن ثم تم تخفيف الضغط الأمريكي على لوكاتشنكو حيث إن سقوطه من عدمه لم يعد يفيد واشنطن!
2– التدفق الجنوبي: عبر البحر الأسود لبلغاريا ومنها بإمدادات إلى رومانيا فالمجر والنمسا وللجنوب عبر اليونان وإلى إيطاليا (مازال هذا الخط في إطار مفاوضات بلغارية روسية، حيث تتعرض صوفيا لضغوط أمريكية بإيقافه تحت حجج تأثيره العكسي على البيئة بمدينة بورجاس والخسارة السياحية المعرضة لها وكذلك نفقاته الباهظة والتي أعلن الجانب الروسي عن تسهيلات كثيرة لصوفيا به، والتي ما زالت تراوغ إذعانا لواشنطن).
3- التدفق الأزرق عبر تركيا ومن ثم سوريا والأردن وإسرائيل (وهذا يثبت فعلا عدم علم موسكو بغاز البحر الأبيض المتوسط المكتشف حديثا) وقد تم إلغاء هذا الخط بعد علم موسكو.
4– مد خط جديد من نيجيريا إلى النيجر فالجزائر لتسييل الغاز ونقله لأوروبا.
5 – قيام شركة غاز برو الروسية بشراء نصف حصص شركة "ايني" الإيطالية في ليبيا، مع بدايات استثمار بالسودان، وكان الرد الأمريكي في الإسراع بالخطوات العملية للشرق الأوسط الجديد بقطع الطريق على موسكو، وبدء العد التنازلي لمسلسل "ثورات الربيع العربي".