أهدت إلىّ الأديبة المفكرة والشاعرة د. منى حلمى ديوان «رجل أنزفه حتى آخر العمر»، ولأن من عادتى التى لا أتخلى عنها أبدا قراءة الشعر، أو مشاهدة المعارض الفنية، أو سماع الموسيقى ثلاث مرات على الأقل متتابعة، الأولى نظرة أو قراءة أو سماع عام، والثانية انتقائية لعدة أعمال، ثم الثالثة لإدراك المعنى الأعمق لهذه الأعمال، ولقد اخترت عنوانا لهذا المقال «لقمة الحب»، لأن الديوان مرثية بكائية تتجول بوجدانك بين كل علامات الاستفهام والتعجب والمشاعر المختلفة.
فى القصيدة «٤» «يصفونى بالمرفهة لأننى ألهث وراء لقمة الحب لا لقمة العيش»، وهذا العنوان يمس أعمق أعماق الحياة الإنسانية لأن لقمة العيش مشتركة بين جميع المخلوقات، ولكن ما يميزنا ويميز البشرية عموما هو «لقمة الحب».
والديوان أعمق من أن يقرأ مرات ثلاثاً، والكتابة عنه قبل مرور أشهر من القراءة ظلم لنفسى قبل أن أظلمه، ولكنى وجدت نفسى أكتب عنه رغما عنى، حتى أحرر وجدانى من ثقل المأساة الإنسانية، فمأساة البشر فى الأسئلة، وفى فراق الأحبة، وفى علامات التعجب مثل «إذا كنت حقا فى السماء...... لماذا حين تمطر لا أشم رائحتك»، أو إلى اللامنطق الذى يقودك إلى لب وعين المنطق «لعنات السماء تتساقط على قلبى..... ولست بعد مؤمنة بالجاذبية الأرضية»، ولكن يا عزيزى لا تدع المنطق واللامنطق يخدعانك ويبعدانك عن الرومانسية الشديدة والغنائية فى القصيدة الرائعة «لمن تشرق الشمس»، والتى تنتهى بـ«أما أنا زهدت هذه الدنيا...... ورميتها بألف حجر»، ثم تقدم اليأس والإحباط على طبق من الأمل الذى يتراءى لك كبصيص ضوء فى آخر هذا النفق المظلم فى قصيدة «الخامسة صباحا» «ماذا أفعل اليوم؟... لا أعيش اليوم الواحد مرتين.. حتى لو عشته آلاف المرات.. هكذا تحاول الفلسفة أن تعزينى».
وتنتقل بك الدكتورة الشاعرة إلى حب خالص، فى مغنى لم يكتبه أحد من قبل «كنت ابنى لم تحمله أحشائى.... كنت الرجل أعاد ترتيب أشيائى.... كنت دفء شتائى زهوى وانتشائى»، ثم تتابع معك الشاعرة الراحلة إلى أن تصل إلى الشك فى استمرار الحياة دون رفيق «ربما أتزوج بعد موتك.. فقط لأننى أحتاج رجلا أحدثه عنك».
وتوغل فى الرحلة إلى عبثية الحياة فى رأيها «ما هذه الحياة التى أقضيها.. فى دفن من أحبهم؟!! ثم إلى عمق الفكر ورفض الذكورية الشعبية فى «رجل الشارع يعنى المواطن البسيط.. امرأة الشارع تعنى أنثى عاهرة.. اللغة أيضا ذكورية غير عادلة»، ولكن التعود ولعن الله التعود يقودها وإيانا إلى «كم يحزننى أننى.. لم أعد أحزن لغيابك»، أيضا أظن أن بعض أبيات هذا الديوان ستكون أمثلة على لسان الشعب وأقوال مأثورة مثل «كل واقع له خيال يلائمه.... كل خيال له واقع ولد منه»، وأظن أن هذا القول يستحق دراسة مستفيضة وماجستيرات ودكتوراهات فى الفن ومنبعه، وعلم الجمال، وعلم النفس، وكيفية الانفتاح على العقل الباطن منبع الخيال ومخزن الواقع.
وأخيرا من الأقوال المأثورة التى سأكتبها فى إطار، وأعلقها فى منزلى، وأدعو كل أصدقائى إلى قراءتها «لا تزعجوا أنفسكم بحضور جنازتى.... فحتى أنا لن أكون هناك»، وهذا قمة الإيمان وقمة الواقع بثقله على النفس ولكنه أيضا عين الحق.
فى رحلاتى القصيرة والطويلة داخل مصر وخارجها أصطحب ديوان أستاذى الحبيب صلاح جاهين وديوان الكبير فؤاد حداد، وها أنا ذا أقرر اصطحاب ديوان د. منى حلمى معى أيضا حتى تكتمل الثلاثية، وهذا أقل تقدير لديوان كتب من نزيف القلب.