لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى ذكريات كثيرة فى حياتى. قبل أن أصبح صحفيا وناقدا سينمائيا بسنوات، كان هناك حدثان أنتظرهما من العام للعام: معرض الكتاب، ومهرجان القاهرة. كل ما كنت أتحصل عليه من نقود، فى صورة مصروف من أهلى أو خلافه، كان يذهب جزء كبير منه لهذين الحدثين، وجزء آخر لشراء الكتب ودخول دور العرض السينمائى خلال بقية العام، وما يتبقى منه كان يذهب إلى أشياء أخرى كنت أعتبرها «ثانوية»، مثل الخروج مع الأصحاب أو الجلوس فى مقهى «نادى الشطرنج» بالسيدة زينب.. وخلافه.
لا أذكر بالضبط متى ذهبت لحضور عروض مهرجان القاهرة لأول مرة، ولا أول فيلم شاهدته، ولكن أتذكر الكثير من الأفلام الأولى التى شاهدتها فى المهرجان، وبعضها تبين لى بعدها أنها من روائع السينما العالمية، مثل «مفيستو» للمخرج المجرى استيفان زابو، و«المقابلة» للإيطالى فيدريكو فللينى، و«موسكو لا تعرف الدموع» للروسى فلاديمير مينشوف، و«ريمبتكو» لليونانى كوستا فيراس.
وقتها كان وسط البلد يتحول إلى مولد كبير اسمه مهرجان القاهرة، يقبل إليه الجمهور من كل الأعمار والفئات، بالرغم من أنه كان جمهورا ذكوريا تماما، وكانت دور العرض ترحب وتتسابق على عرض أفلام المهرجان، وخاصة تلك الأفلام «الجماهيرية» التى تسبقها سمعتها بأنها تحتوى على «مناظر».
هذا الإقبال الهائل على عروض المهرجان كان سببه الأول، كما تعرفون، أنها لم تمر عبر مقصلة الرقابة على المصنفات الفنية، ولم تحذف منها المشاهد الجنسية والعارية، الهوس الذى يشغل بال معظم المصريين.
الغريب أن فترة الثمانينيات هذه، التى شهدت صعود مهرجان القاهرة وأفلامه، كانت تشهد فى الداخل تراجعا كبيرا ثقافيا وفنيا على مستوى حرية التعبير، الذى بلغ ذروته فى السبعينيات. وفى مجال السينما مثلا شهدت السبعينيات الكثير من الأفلام «العارية»، ولكن عقب صعود التيارات الدينية المتشددة واغتيال السادات وصعود التطرف الدينى شهدت السينما انغلاقًا متزايدًا. ويبدو أن مهرجان القاهرة كان الاستثناء الذى يجد فيه الناس عيدًا سنويًا للتنفيس والتفريج عن أنفسهم من حالة التزمت والنفاق الأخلاقى الذى يعيشون فيه.
كان السؤال الأكثر رواجًا وترددًا فى مولد مهرجان القاهرة هو «قصة ولا مناظر؟»، وكانت الطوابير تصطف على امتداد الشارع المؤدى لأى سينما تعرض واحدًا من أفلام «المناظر»...وكان يحدث أحيانا أن تقوم السينما بتغيير الفيلم المنتظر فى اللحظات الأخيرة، وساعتها كان الجمهور يقلب الدنيا وربما يحطم دار العرض.
لا أقول إن أفلام المناظر لم تكن تعجبنى أيضًا، ولكنها لم تكن على رأس أولوياتى. لحسن حظى كنت أتردد على نوادى سينما المراكز الثقافية الأجنبية بالقاهرة، وكنت عضوا فى نادى سينما القاهرة، وأقرأ بأكثر من لغة، وأفرق بين الفرجة على الأفلام الإباحية ومشاهدة الأفلام الفنية، ومهرجان القاهرة كان بالنسبة لى فرصة للاطلاع على أحدث إنتاجات السينما العالمية والتعرف على أعمال كبار السينمائيين الذين أسمع عنهم من الكتب والصحف وبرنامجى «نادى السينما» و«أوسكار» اللذين يبثان على التليفزيون المصرى.
ومن خلال مهرجان القاهرة كونت حصيلة ثرية من الأفلام العالمية الكبرى التى لا تنسى...
لم يكن مطروحًا بأى حال أن يأتى مهرجان القاهرة دون أن أشاهد بعض أفلامه. فى المتوسط كنت أشاهد ثلاثة أو أربعة وأحيانا خمسة أفلام فى اليوم الواحد، وعلى الأقل فيلما واحدا. ولكن فى سنة من السنين جاء المهرجان وأنا مجند فى الجيش فى مركز تدريب بالقرب من مدينة السويس. كنت معتادًا على النزول «مبيت» فيما عدا يومى الخميس والجمعة اللذين يسافر فيهما سكان الأقاليم البعيدة. ولكن لسبب ما تم إلغاء المبيت خلال هذا الأسبوع. ومثل من تلقى خبرا كارثيا رحت أجوب المعسكر بحثا عن حل ولكن كل محاولاتى باءت بالفشل. فى نهاية اليوم حصلت على إذن «مبيت» ليوم واحد على أن أعود صباح اليوم التالى.
عندما وصلت ميدان رمسيس فى منتصف الليل توجهت نحو وسط البلد عسى أن ألحق بأى فيلم. دخلت أول دار عرض قابلتنى وشاهدت فيلمًا سيئًا فى حفل منتصف الليل قبل أن أعود إلى المنزل.
كان المفروض أن أنام لمدة ساعتين أو ثلاث قبل أن أنطلق إلى ميدان رمسيس لأستقل وسيلة مواصلات أخرى أعود بها إلى المعسكر قبل طابور الصباح. ولكننى لم أفعل، وقضيت ثلاثة أيام أتنقل فيها بين أفلام المهرجان.
عندما عدت إلى المعسكر فى اليوم الرابع تعرضت للتحقيق وصدر أمر بحبسى داخل حجز المعسكر، وبالرغم من أن العقوبة الأولى لا تنفذ عادة ويكتفى بتسجيلها فى الملف، إلا أن قائد الوحدة، لسبب ما، أمر بحبس كل الذين تعرضوا للعقاب من جنود وصف ضباط، وهكذا عوقبت على ذهابى لمهرجان القاهرة بالحبس لمدة ثلاثة أيام.
لا أنسى هذه الليالى الثلاث التى قضيتها داخل محبس المعسكر. كان هناك جندى زميل يتمتع بصوت جميل كلما حل الليل يبدأ فى الغناء ونحن معه، وكان جنود الخدمة يقتربون من محبسنا ليشاركونا الغناء من الخارج.
فى اليوم الرابع خرجت من المحبس وبذلت كل ما أستطيع للحصول على «المبيت» من جديد، ومرة أخرى احتضننى ميدان رمسيس دافعًا بى إلى قلب وسط البلد، وكان قلبى يدق بعنف وأنا أتقدم نحو دور العرض متلهفًا لرؤية فيلم جديد.
لا أذكر بالضبط متى ذهبت لحضور عروض مهرجان القاهرة لأول مرة، ولا أول فيلم شاهدته، ولكن أتذكر الكثير من الأفلام الأولى التى شاهدتها فى المهرجان، وبعضها تبين لى بعدها أنها من روائع السينما العالمية، مثل «مفيستو» للمخرج المجرى استيفان زابو، و«المقابلة» للإيطالى فيدريكو فللينى، و«موسكو لا تعرف الدموع» للروسى فلاديمير مينشوف، و«ريمبتكو» لليونانى كوستا فيراس.
وقتها كان وسط البلد يتحول إلى مولد كبير اسمه مهرجان القاهرة، يقبل إليه الجمهور من كل الأعمار والفئات، بالرغم من أنه كان جمهورا ذكوريا تماما، وكانت دور العرض ترحب وتتسابق على عرض أفلام المهرجان، وخاصة تلك الأفلام «الجماهيرية» التى تسبقها سمعتها بأنها تحتوى على «مناظر».
هذا الإقبال الهائل على عروض المهرجان كان سببه الأول، كما تعرفون، أنها لم تمر عبر مقصلة الرقابة على المصنفات الفنية، ولم تحذف منها المشاهد الجنسية والعارية، الهوس الذى يشغل بال معظم المصريين.
الغريب أن فترة الثمانينيات هذه، التى شهدت صعود مهرجان القاهرة وأفلامه، كانت تشهد فى الداخل تراجعا كبيرا ثقافيا وفنيا على مستوى حرية التعبير، الذى بلغ ذروته فى السبعينيات. وفى مجال السينما مثلا شهدت السبعينيات الكثير من الأفلام «العارية»، ولكن عقب صعود التيارات الدينية المتشددة واغتيال السادات وصعود التطرف الدينى شهدت السينما انغلاقًا متزايدًا. ويبدو أن مهرجان القاهرة كان الاستثناء الذى يجد فيه الناس عيدًا سنويًا للتنفيس والتفريج عن أنفسهم من حالة التزمت والنفاق الأخلاقى الذى يعيشون فيه.
كان السؤال الأكثر رواجًا وترددًا فى مولد مهرجان القاهرة هو «قصة ولا مناظر؟»، وكانت الطوابير تصطف على امتداد الشارع المؤدى لأى سينما تعرض واحدًا من أفلام «المناظر»...وكان يحدث أحيانا أن تقوم السينما بتغيير الفيلم المنتظر فى اللحظات الأخيرة، وساعتها كان الجمهور يقلب الدنيا وربما يحطم دار العرض.
لا أقول إن أفلام المناظر لم تكن تعجبنى أيضًا، ولكنها لم تكن على رأس أولوياتى. لحسن حظى كنت أتردد على نوادى سينما المراكز الثقافية الأجنبية بالقاهرة، وكنت عضوا فى نادى سينما القاهرة، وأقرأ بأكثر من لغة، وأفرق بين الفرجة على الأفلام الإباحية ومشاهدة الأفلام الفنية، ومهرجان القاهرة كان بالنسبة لى فرصة للاطلاع على أحدث إنتاجات السينما العالمية والتعرف على أعمال كبار السينمائيين الذين أسمع عنهم من الكتب والصحف وبرنامجى «نادى السينما» و«أوسكار» اللذين يبثان على التليفزيون المصرى.
ومن خلال مهرجان القاهرة كونت حصيلة ثرية من الأفلام العالمية الكبرى التى لا تنسى...
لم يكن مطروحًا بأى حال أن يأتى مهرجان القاهرة دون أن أشاهد بعض أفلامه. فى المتوسط كنت أشاهد ثلاثة أو أربعة وأحيانا خمسة أفلام فى اليوم الواحد، وعلى الأقل فيلما واحدا. ولكن فى سنة من السنين جاء المهرجان وأنا مجند فى الجيش فى مركز تدريب بالقرب من مدينة السويس. كنت معتادًا على النزول «مبيت» فيما عدا يومى الخميس والجمعة اللذين يسافر فيهما سكان الأقاليم البعيدة. ولكن لسبب ما تم إلغاء المبيت خلال هذا الأسبوع. ومثل من تلقى خبرا كارثيا رحت أجوب المعسكر بحثا عن حل ولكن كل محاولاتى باءت بالفشل. فى نهاية اليوم حصلت على إذن «مبيت» ليوم واحد على أن أعود صباح اليوم التالى.
عندما وصلت ميدان رمسيس فى منتصف الليل توجهت نحو وسط البلد عسى أن ألحق بأى فيلم. دخلت أول دار عرض قابلتنى وشاهدت فيلمًا سيئًا فى حفل منتصف الليل قبل أن أعود إلى المنزل.
كان المفروض أن أنام لمدة ساعتين أو ثلاث قبل أن أنطلق إلى ميدان رمسيس لأستقل وسيلة مواصلات أخرى أعود بها إلى المعسكر قبل طابور الصباح. ولكننى لم أفعل، وقضيت ثلاثة أيام أتنقل فيها بين أفلام المهرجان.
عندما عدت إلى المعسكر فى اليوم الرابع تعرضت للتحقيق وصدر أمر بحبسى داخل حجز المعسكر، وبالرغم من أن العقوبة الأولى لا تنفذ عادة ويكتفى بتسجيلها فى الملف، إلا أن قائد الوحدة، لسبب ما، أمر بحبس كل الذين تعرضوا للعقاب من جنود وصف ضباط، وهكذا عوقبت على ذهابى لمهرجان القاهرة بالحبس لمدة ثلاثة أيام.
لا أنسى هذه الليالى الثلاث التى قضيتها داخل محبس المعسكر. كان هناك جندى زميل يتمتع بصوت جميل كلما حل الليل يبدأ فى الغناء ونحن معه، وكان جنود الخدمة يقتربون من محبسنا ليشاركونا الغناء من الخارج.
فى اليوم الرابع خرجت من المحبس وبذلت كل ما أستطيع للحصول على «المبيت» من جديد، ومرة أخرى احتضننى ميدان رمسيس دافعًا بى إلى قلب وسط البلد، وكان قلبى يدق بعنف وأنا أتقدم نحو دور العرض متلهفًا لرؤية فيلم جديد.