الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

يوم مات الأستاذ "1- 3"

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رأيت نجيب محفوظ أول ما رأيته على مقهى «ريش» الشهير في قلب القاهرة في منتصف السبعينات. كنت أتردد على المقهى بين الحين والآخر.
وأنا لم أزل بعد طالبًا في الجامعة. بعد أن ربطنى إليه سحره الخاص. وعلمى أنه أبدًا لم يكن مثله مثل كثير من مقاهى القاهرة. بل هو منتدى وملاذ المثقفين والفنانين. وسجل قديم لتاريخ مصر الثقافى والسياسي الحديث.
أيامها أشار لى «عم فلفل» أقدم جرسونات ريش إلى طاولة على الرصيف. وأخبرنى بكل إجلال «هذه ترابيزة الأستاذ نجيب». وسألت وعرفت أنه يأتى بانضباط في الثامنة كل صباح. يجلس إلى طاولته. يطالع جرائد الصباح ويحتسى رشفات من فنجان قهوة. ثم ينطلق مشيًا على قدميه إلى مبنى «الأهرام» حيث مكتبه.
حرصت على أن أحضر قبل موعده اليومى. لكنى أبدًا لم أجرؤ على الجلوس إلى الطاولة المجاورة. لم أكن جمال الغيطانى أو يوسف القعيد. أو غيرهما من تلاميذ وحوارى الأستاذ لأحظى بهذا الشرف. واكتفيت بالجلوس على بعد طاولات. مستمتعًا بالنظر إليه طوال الوقت. حتى يغادر ريش!
وفى العام ١٩٩٤ وحين تعرض الأستاذ نجيب لمحاولة الاغتيال الآثمة الفاشلة. بسبب روايته «أولاد حارتنا». جاهدت كثيرًا حتى حصلت على أوراق قضية محاولة الاغتيال وملفات التحقيق السرية. وعكفت عليها شهورًا حتى انتهيت من كتابى «أولاد شارعنا». الذي حاولت فيه أن أكشف أسرار محاولة اغتيال أديب نوبل الكبير.
وعن نجيب محفوظ وعن شخصى المتواضع كتب الأديب الصديق جمال الغيطانى مقدمة الكتاب التي قال فيها: «كلاهما عزيز، وقريب من نفسى، وأحمل له ودًا وتقديرا، المكتوب عنه وهو الأصل نجيب محفوظ، أستاذنا وهادينا ومعلمنا، والكاتب محمود صلاح، أحد أغرز أبناء جيله موهبة، الألمع صحفيا، النجم المضىء في سماء دار «أخبار اليوم»، بكفاءته النادرة، وقلمه الطلى الرشيق، عرف كيف يقدم إلى المكتبة العربية مؤلفًا نادرًا وثمينا، صحيح أن الموضوع يذكرنا بما جرى لعميد الأدب العربى الحديث، من محاولات غادرة، جعلت أعظم روائى في العصر الحديث يبصم بأصبعه، بعد أن طال السكين المتعصب عصبًا يتصل بإمكانية الكتابة... وهنا تكمن المفارقة والمأساة، ولكن هذا الحدث الدامى له أسراره التي لم تعرف بعد، هكذا مضى محمود صلاح بدأبه وموهبته، وحبه الجارف الكاشف للحقيقة، ليقلب خمسة آلاف صفحة كاملة، ملف التحقيق في قضية محاولة اغتيال أديبنا الكبير، ولم يكتف بذلك بل سعى يسأل ويستقصى ويستنظر الحقيقة، هكذا جاء هذا الكتاب المثير الذي يجيب عن أسئلة شتى. ويرسم ملامح حقبة ومرحلة صعبة من مسار واقعنا.
ويكشف عن جوانب لم يعرفها أحد من قبل. عن نجيب محفوظ الأصل الراسخ، والذي حاول فرعه الرشيق أن يتصل به مرة أخرى. لتكتمل الدائرة التي بدأها محمود صلاح. عندما شرع يقص ما جرى»!
أسعدنى تقديم الغيطانى. لما فيه من حب وصدق وحماسة. لكن بعد أن صدر الكتاب أسعدنى أكثر أن الكتاب حاز إعجاب «عم نجيب» نفسه. وهو الذي لم يكن يحب أن يتذكر أو يتحدث عن محاولة اغتياله.
ومرت سنوات والتقيت بالأستاذ نجيب أكثر من مرة في ندوته الأسبوعية وأحيانًا في بيته في بعض المناسبات. لكننى دائمًا كنت أتصور بينى وبين نفسى أن كتابى «أولاد شارعنا»، وإن كان يدور حول واقعة محاولة الاغتيال، إلا أنه رسالة حب خالصة من تلميذ محب إلى أستاذه الكبير. حتى أهدانى الصديق والكاتب المتميز محمد سلماوى كتابه الأخير «نجيب محفوظ.. المحطة الأخيرة». وبعد أن التهمت سطور الكتاب. أدركت أنى لم أكن وحدى التلميذ. ولم أكن وحدى المحب لنجيب محفوظ.
اختار سلماوى والذي كان أقرب الناس إلى نجيب محفوظ خلال السنوات الأخيرة قبل رحيله عن الدنيا- اختار لكتابه موضوعًا يهز القلب من الكلمة الأولى. فقد استدعى كما قال تجربة الـ ٤٥ يومًا الأخيرة في حياة أديبنا الراحل نجيب محفوظ. من لحظة دخوله المستشفى يوم الأحد ١٦ يوليو ٢٠٠٦، إلى أن ورى التراب يوم الخميس ٣١ أغسطس ٢٠٠٦. بكل ما تضمنته تلك التجربة من وخزات ألم سددها القدر. وما شهدته أيضًا من لحظات بهجة أشاعها نجيب محفوظ نزيل الغرفة ٦١٢ بين زائريه.
ولم يأت كتاب محمد سلماوى مجرد يوميات للفترة التي قضاها الأستاذ نجيب بمستشفى الشرطة قبل رحيله عن الدنيا. بل كان محاولة أدبية وإنسانية شفافة. لتقديم صورة رجل لم يكن كمثله أحد. لا في أخلاقه السامية. ولا في شخصيته الفريدة. ولا في إنجازه الأدبى غير المسبوق.
كان محمد سلماوى خلال السنوات التي سبقت رحيله عن الحياة. زائرًا أسبوعيًا للمنزل رقم ١٧٢ في شارع النيل بالعجوزة. المواجه لشاطئ النيل. وهو بيت نجيب محفوظ. يزوره كل يوم سبت في موعد لا يتأخر ولا يتأجل. وهى الزيارة التي كان نجيب محفوظ ينتظرها بشغف كل أسبوع. وفيها يعرض عليه سلماوى رسائل القراء.
وما استجد من أحوال الدنيا. ويجرى معه حوارهما الأسبوعى لجريدة الأهرام. وينقل له صدى «أحلام فترة النقاهة». والتي كانت نوعًا جديدًا من الكتابة الأدبية. كان نجيب محفوظ بحق رائده في الشرق وعلى مستوى العالم كله!
بدأت رحلة النهاية في صباح يوم ١٦ يوليو ٢٠٠٦. عندما تعثر الأستاذ وهو يمشى داخل حجرة نومه. ووقع على الأرض. وأصيب بجرح غائر في مؤخرة رأسه. ودخلت عليه ابنته الصغرى «فاطمة».
فوجدته فاقدًا للوعى وينزف بشدة. وتم نقله بسرعة إلى مستشفى الشرطة المجاور لبيته. حيث قام الأطباء بعمل بعض «الغرز» الجراحية لخياطة الجرح. وأعلنوا أنه سيغادر المستشفى بعد أيام قليلة.