فى مكتبة كلية الألسن بمبناها القديم فى حلمية الزيتون التقيت بأدونيس لأول مرة.
كانت مكتبة صغيرة، عبارة عن غرفة واحدة صغيرة مثل مكتبات المدارس الابتدائية، كل كتبها تقريبًا باللغة العربية، رغم أننا فى كلية الألسن، ولا عجب فقد كان المبنى نفسه مدرسة ابتدائية أصبحت بديلًا عن «مدرسة الألسن» القديمة التى أسسها رفاعة الطهطاوى، والتى تحولت إلى كلية تابعة لجامعة عين شمس لاحقًا. وبطبيعة الحال، نظرًا للحالة الثقافية العامة فى عالمنا العربى، والحالة الخاصة للمكتبة، لم يكن يرتادها سوى عدد قليل جدًا من الطالبات والطلبة، لإزجاء بعض أوقات الفراغ غالبًا، أو لتحضير مقال أو بحث فى مادة اللغة العربية.
فى القاعة الخاوية الهادئة، كنت أتسلل أحيانًا للهروب من الزحام والضجيج وتمضية ساعة أو اثنتين مع الكتب.
فى ركن الأرفف الخاصة بالشعر، جذبتنى مجلدات الأعمال الكاملة التى كانت تصدرها دار نشر «العودة» البيروتية لكبار الشعراء العرب، وكانت ذات لون أحمر مميز.
بين هذه الكتب رأيت اسم «أدونيس» بالخط الكبير وتحته أو أعلاه اسم «على أحمد سعيد»، فلفت انتباهى غرابة الاسم الأول واقترانه بالاسم العربى المألوف، وبدأت فى قراءة الصفحات الأولى منه التى لم تكن تقل غرابة وسحرًا عن الغلاف...وكانت اللحظة التى وقعت فيها تحت تأثير أدونيس.
أشعار الديوان الأول لأدونيس تحمل نقاء وعذوبة وبساطة مدهشة، وتختلف تمامًا عن المسار الذى اتخذته أشعاره فيما بعد، والتى زادت تركيبًا وذهنية بمرور الوقت.
فى ديوانه الأول «قصائد أولى» يكتب أدونيس تحت عنوان «بيت»:
«حكاية الأشباح فى بيتنا
بعُد، على شفاهنا تخطر،
يخبئها المحراث والبيدر،
فيه تنورنا مسافاتنا
فيه حلمنا بالمجاهيل-
نقفز من كون إلى آخر
نطير من جيل إلى جيل»
فى الديوان مجموعة من القصائد الطويلة البدائية شعرًا ومضمونًا، ولكن أجمل ما فيه هو مجموعة من القصائد القصيرة المركزة التى تحمل فكرة وصورة واحدة أحيانًا، مثل القصيدة التالية التى تحمل عنوان «فجر»:
«شمسك فى مفاصلى
كالثلج، كالحريق
يا قلقًا يولد فى طريقي
يا فجر، يا رفيقى»
لم يلفت انتباهى فى الديوان الأول لأدونيس سوى هذه القصائد القصيرة، ولكن بدءًا من ديوانه الثانى «أوراق فى الريح» تتأكد خصوصية أدونيس وأسلوبه، ويحمل الديوان بعضًا من القصائد المختلفة عن أى شيء قرأته من قبل، والقصيدة التى تحمل اسم الديوان، ويبدأ بها عبارة عن مجموعة من المقاطع القصيرة المبهرة فى صورها من بينها مثلًا:
«لأننى أمشي
أدركنى نعشى»
أو:
«وطنى يُغلغلُ فى متاه أجرد
أهذا غدُ؟ لا لست من هذا الغدِ»
أو:
«لا، لا. أحب أن أثقا
وبسطت أجنحتى ومنحتها الأفقا
فتناثرت مزقا..»
أو:
«قال الربيع:
حتى أنا فى كل ثانية أضيعها، أضيع»
أو أخيرًا هذه القصيدة الطريفة المبتكرة الفكرة والصورة:
«أمس، فأره
حفرت فى رأسى الضائع حفره،
ربما ترغب أن تسكن فيه
ربما تطمح أن تملك فيه
كل تيه
ربما ترغب أن تصبح فكره..»
هذه القصائد المكتوبة فى خمسينيات القرن الماضى، وليدة عصر رومانتيكى حالم، ولكن بدءًا من الستينيات وحتى قبل هزيمة ١٩٦٧ التى أحدثت صدمة مدوية فى وعى الشعراء والفنانين العرب، يمكن أن نلاحظ تراجع غنائية أدونيس التدريجية فى دواوينه اللاحقة، فى الوقت الذى تكتسب فيه لغته نصاعة وقوة بيان، وتنامى وعيه الناقد والمنتقد والساخط على المجتمع من حوله، وهو يترك القرية بطفولتها وموضوعاتها الساذجة ليقتحم مجال السياسة والفكر باعتبارهما الملعب الرئيسى والبارز الذى تتجول فيه كرة التخلف.
فى ديوانه الثالث «أغانى مهيار الدمشقى» يبدأ أدونيس رحلة إبحاره فى التراث والأسطورة، مستلهمًا التاريخ القديم ليرسم به صورة للحاضر السياسى والاجتماعى المتراجع، ويحلل أمراض الماضى ليفسر أعراض الحاضر.
فى قصيدة «وجه مهيار» يقول:
«وجه مهيار نار
تحرق أرض النجوم الأليفة،
هو ذا يتخطى تخوم الخليفة
رافعًا بيرق الأفول
هادمًا كل دار، هو ذا يرفض الإمامة
تاركا يأسه علامة
فوق وجه الفصول»
هذه الثورة وهذا الرفض يتصاعدان فى أعماله التالية، والتى تصل إلى قمة التمرد فى قصيدة «ملوك الطوائف» الخارجة من دمار الحرب الأهلية التى قضت على لبنان والمنطقة فى الثمانينيات، والتى تحمل هذا المقطع النارى:
«سنقول الحقيقة:
هذى بلاد رفعت فخذها راية..
سنقول الحقيقة:
ليست بلادًا.. هى إسطبلنا القمري
عكاز السلاطين.. سجادة النبي
سنقول البساطة:
فى الكون شيء يسمى الحضور
وشيء يسمى الغياب
سنقول الحقيقة: نحن الغياب»
عرفت أدونيس دون وساطة، قرأته وتابعته ووقعت فى عشق شعره. لم أكن أعرف اسمه قبل ذلك اليوم الرائع الذى عثرت فى أعماله بالصدفة، ولذلك لا أعبأ بكل ما يقال عنه من خصومه الكثيرين، ومن المعارك «السياسية» و«الشخصية» التى تشن ضده.
أدونيس، بالنسبة لى، شاعر كبير جدًا لا نظير له فى الشعر العربى.