نكمل اليوم تفاصيل لقائى بفيروز فى الكويت
عطر ورجال مبتسمون ونساء جميلات.. فرحة وانتظار.. رهبة واشتياق هكذا رأيت الناس يدخلون إلى مسرح «سينما الأندلس» فى تلك الليلة.. وخارج المسرح كان المئات من اللبنانيين قد حضروا مع زوجاتهم فى أبهى ثياب سهرة.. رغم أنهم لم يكونوا من المحظوظين الذين حصلوا على تذاكر الدخول وقد نفدت بكاملها حتى قبل حضور فيروز إلى الكويت، لكن هكذا اللبنانيون يكفيهم أن يقضوا السهرة على الرصيف خارج المسرح.. لقد جاءوا من أجل «سيدة لبنان»، حتى إن لم يستطيعوا سماعها وهى تغنى.
مضى الوقت جميلا.. وكلما اقترب موعد رفع الستار كنت أشعر بالجالسين حولى ينتفضون شوقا.. بدأ الجميع يستعد عندما تناهت إلى الأسماع أصوات الموسيقيين وقد صعدوا إلى خشبة المسرح وبدأوا فى ضبط الآلات الموسيقية، لكن فجأة حدث ما لم يكن يخطر على بال.
ظهر أحد رجال الأمن على خشبة المسرح.. تردد قليلا وعلامات الضيق على وجهه.
ثم قال بصوت حاول أن يجعله هادئا: رجاء ألا تنزعجوا.. لقد تلقينا بلاغا هاتفيا يزعم وجود قنبلة فى المكان.. فنتمنى أن تغادروا المسرح فى هدوء حتى نتأكد من صحة البلاغ!
ساد صمت غريب المكان..
لم يتحرك أحد من مكانه وكأن الجميع قد تسمروا إلى مقاعدهم..
عاد رجل الأمن ليقول: نرجوكم مغادرة المسرح لدقائق.. إن البلاغ جد خطير.
لم يتحرك أحد.
جاء صوت من آخر القاعة يقول بلا تردد: لن نغادر المكان، وإذا كان أحد يريد إيذاءها، فقد حضرنا من أجلها.. وسنبقى معها!
انتبهت من صدمتى على صوت يصرخ فى وجهى.. كانت صديقة فيروز: نهاد.. يجب أن أذهب لأطمئن عليها.
لم تعطنى الفرصة سحبتنى وراءها لنكتشف أن رجال الأمن أخبروا فيروز بأمر بلاغ القنبلة، فى اللحظات الأخيرة التى كانت تستعد فيها للصعود إلى خشبة المسرح.. ثم حملوها عنوة من الباب الخلفى إلى خارج المسرح وأجلسوها فى سيارة خوفا عليها.
توقفت مع صديقة فيروز عندما خرجنا نبحث عنها عند أغرب مشهد رأته عيناى، كان المئات من اللبنانيين الذين كانوا يقفون خارج المسرح وعلموا بما حدث.. قد أسرعوا إلى سيارة فيروز وأحاطوا بها، وأشعلوا جميعا قداحاتهم وانطلقوا فى غناء بعض أغانيها.
وكأنهم يقولون لها: لا تخافى يا حلوتنا.. نحن هنا.. ونحن معك!
فى تلك الليلة أبدعت فيروز كما لم تبدع من قبل.
اكتشف رجال الأمن بعد ساعة أن البلاغ كاذب، وظهرت فيروز وسط عاصفة جميلة من التصفيق الحماسى.. فى تلك الليلة «ابتسمت» السيدة الوقورة، لناسها، وغنت من أعماق قلبها.. غنت أولا لتنزع ما قد يكون قد علق من خوف فى قلوبهم.. ثم غنت لتسعدهم.. وقد سعدوا وخرجوا يترنحون من نشوة السعادة.
مضى الناس إلى بيوتهم وقادتنى صديقة فيروز إلى حيث جناحها فى فندق « حياة ريجنسى».. فتحت لنا باب الجناح بنفسها وقادتنا ببساطة إلى الصالون وجلست إلى أريكة شرقية.
سألت صديقتها: شو اللى حصل؟
رأيتها - جميلة هذه المرأة استمعت إليها إنسانة.. هذه الإنسانة وناقشتها ذكية هذه الفنانة هى نادرة الحديث عن نفسها خاصة مع الصحفيين لا تحب أجهزة التسجيل التى يحملونها معهم.
قالت لى فيروز وهى تضحك: شو بدك فينى.. أحك لى عن نفسك..
عرفت أنها أبدا لا تجرى حديثا صحفيا بالصورة التقليدية.. إنها حين تسمح لأحد بذلك.. فإنه يكون بأن يجلس إليها أكثر من مرة.. حيث يدور الحديث حول موضوعات شتى.. لا سؤال ولا جواب.
عندما جئت إليها بعد يومين بصورة مما كتبته.. لعلها تحذف أو تضيف شيئا.
أشاحت بالأوراق جانبا..
سألتنى: هل قرأت ما كتبته بعد أن انتهيت منه؟
قلت لها: أكثر من مرة.
سألتنى: هل أحببته؟
قلت: بصراحة.. نعم.
قالت وهى تعيد لى أوراقى: إذن أدفع بأوراقك إلى المطبعة.
واكتشفت ساعتها أن أول ما تؤمن به فيروز هو «الحب» أنها نفسها قصيدة حب صاغتها السماء.
والتقيت بها بعد ذلك أكثر من مرة.. وفى كل مرة كنت أذهب فيها إلى بيروت كنت أسعى خلفها، وأذكر أننى فى إحدى الزيارات لم أستطع الوصول إليها.. كنت على موعد مع الرئيس اللبنانى إلياس الهراوى. وبعد أن انتهيت من إجراء حديث سياسى معه.. وقبل أن أغادر مكتبه.
قلت له: فخامة الرئيس.. إن لدى طلبا عندك.
قال الرئيس الهراوى: بأمرك؟
قلت له: هل تتوسط لى لكى التقى السيدة فيروز.. لم يبق سوى يوم واحد وأغادر بيروت دون أن أراها.
ضحك الرئيس اللبنانى بشدة.
وقال لى: أى شىء أستطيع التوسط فيه من أجلك، إلا هذا.. إن السيدة فيروز لا ترى إلا من تحب أن تراه!
لكن الأجمل من ذلك أننى حين ذهبت إلى شقتها التى تسكنها فى بناية تطل على الروشة وأخبرت «ناطور» البناية باسمى وطلبت منه أن يخبر فيروز أننى أرغب فى رؤيتها، ثم انصرفت لم أمش سوى بضع خطوات. حتى فوجئت «بالناطور» يعدو خلفى ويصيح.
تعال.. الست فيروز تريدك.
كانت حرب الشهور الستة قد انتهت.. وبيروت تضمد جراحها، بينما وقف زميلى المصور الفنان فاروق إبراهيم على الرصيف فى الشارع.. يلتقط بالكاميرا صورا لبعض طلقات الرصاص الطائشة التى أصابت شرفة فيروز.. كنت أصعد الدرجات عدوا وجدتها عند باب الشقة تمد ابتسامتها الرائعة ويدها الرقيقة مرحبة.
وقفت أمامها أتصبب عرقا امتلأ شوقا.
بنفس الصوت الحبيب سألتنى: شو بك محمود؟
لم أرد..
لم أقل لها كم ليلة انتظرتها.
وكم ليلة تمنيت أن أغنى لها أغنيتها:
«فى السهرة أنتظر..
يطول بى السهر..
فيسألنى القمر..
يا حلوة. ما الخبر؟».