فى فترة مبكرة من شبابى انتبهت إلى ملحوظة غريبة جدا تتعلق بحالتى عند مشاهدة الأفلام.
كنت قد انضممت إلى عضوية «نادى سينما القاهرة»، ومعتادا على التردد على المراكز الثقافية الأجنبية، ومشاهدة أفلام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وكلها منافذ تعرض الكثير من روائع السينما العالمية بدون حذوفات رقابية، وكانت هذه الأفلام تحمل الكثير من مشاهد العرى والجنس التى كانت شيئا نادرا للغاية وقتها، ومع ذلك لا أتذكر أننى شعرت بالحرج أو الإثارة خلال مشاهدة هذه الأعمال.
على العكس تماما كان ينتابنى الخجل والشعور بأننى فى مكان «مشبوه» وأنا أشاهد بعض الأفلام المصرية التى تحتوى على مشاهد إغراء، غالبا ما تقتصر على امرأة تعرى جزءا من كتفيها أو ساقيها أو أعلى صدرها، وتتمايل وتتثنى كالحية وتتكلم بطريقة غير طبيعية، على طريقة هند رستم وأحمد رمزى فى فيلم «ابن حميدو»، أو حتى تقتصر على بعض الإيحاءات اللفظية والتلاعب بالكلمات على طريقة أحمد رمزى وكاريمان فى فيلم «بنات اليوم».
طالما حيرتنى هذه المفارقة، ولكن بعد عمر طويل اكتشفت السر أثناء قراءة كتاب ألمانى ضخم من ثلاثة أجزاء بعنوان «تاريخ الخجل».. يرصد التاريخ الاجتماعى والثقافى لفكرة «الخجل» أو «الحياء» العام، والطريقة التى عملت بها السلطات السياسية والدينية على جعل الأفراد يخجلون من أشياء بعينها، والطريقة التى يلعب بها الفنانون وصناع الترفيه والتسلية على هذه الأشياء المخجلة لينتزعوا الضحكات أو مشاعر الإثارة من الجمهور.
الملحوظة الثانية أننى وجدت نفسى، لأسباب لها علاقة بالتربية والثقافة، أحب النوع الأول وأحتقر النوع الثانى.
لكننى.. بعد عمر أطول أجد نفسى الآن متلبسا بالدفاع عن هذه الأعمال «الهابطة».
من المحرج بالطبع أن يجد المرء نفسه متلبسا بالدفاع عن أفلام يعتبرها «الرأى العام» تافهة ومبتذلة، بل وضارة بالذوق الرفيع والأخلاق الحميدة.
لا أنكر أننى استشعرت الحرج قليلا وأنا أكتب هذا المقال، ليس لأننى لا أؤمن بما فيه وليس لأننى أعتقد أن فيه ما يتناقض مع عدائى للهبوط والابتذال، ولكن لأننى أعرف أن الكثيرين سيكتفون بقراءة العنوان، ثم يكيلون الاتهامات التى قد تتراوح من وصمى بنصير الهبوط وحتى وصمى بأننى «أقبض» من أصحاب هذه الأعمال الهابطة.
لا أحب الأفلام «الهابطة»، ومعظم أفلام السينما المصرية «هابطة» لا أشاهدها إلا مضطرا بحكم عملى كناقد وصحفى، ولولا ذلك لاقتصرت مشاهداتى على الأعمال الكبيرة لكبار السينمائيين العالميين والمصريين، وحتى لا يسارع أحدكم باتهامى بالانحياز ضد أفلام بلدى أضيف أننى لا أحب كذلك معظم الأفلام الهندية ولا معظم الأفلام الأمريكية.
لا أميل بشكل عام إلى ما يسمى بالفن السائد، الذى يصنع لعموم وعامة الناس، ويتسم عادة بالخفة والاستخفاف، باستثناء تلك الأعمال المصنوعة ببراعة وإتقان شديدين، والتى تحمل مستويات متعددة من الأفكار والمعانى.
لكننى، بحكم عملى ومتابعاتى وقراءاتى، أدرك أن الفن السائد غالب، وأنه الأساس، وأن الناس لا يستطيعون الاستغناء عنه، وأنه رغم كل الانتقادات، مفيد وضرورى لحياتهم، مهما كانت درجة تفاهته.
منذ عقود ونقاد وصحفيو الفن يطلقون عددا من المصطلحات الطريفة يصفون بها الموجات المتتابعة من «الهبوط» مثل «سينما المقاولات»، «أفلام نادية الجندى»، «أفلام المخدرات»، أو مصطلح «أفلام السبكية» الذى يتداول منذ عدة سنوات.
هذه المصطلحات تصف موجات من الأفلام التى تظهر فى فترة متقاربة وتتشابه فيما بينها فى بعض العناصر الفنية، قد تكون طريقة الإنتاج، أو الموضوع والتيمة الأساسية، أو الممثلين الرئيسيين.. غالبا ما تتوجه إلى القطاعات الشعبية أو الطبقة الوسطى الدنيا التى لا تعرف من الفن سوى جانبه الترفيهى.
من الطريف أن «طرافة» هذه المصطلحات لا تقتصر على التى تحمل رأيا سلبيا، بل إن واحدا من أطرفها هو «السينما النظيفة» الذى يقصد به مديح موجة معينة من الأفلام، ولكن مع الوقت تحول المصطلح إلى مادة للسخرية من هذه الأعمال وصناعها، لأنها فى الأول والآخر لا تهدف لشيء سوى استرضاء الجمهور، بغض النظر عن القناعات الشخصية لأصحاب هذه الأفلام، فالمهم هو السير وراء «الذوق العام» الذى كان يطلب أفلاما تخلو من المايوهات والقبلات.
الهبوط الفنى، إذن، كما أتصوره، لا يقتصر كما يتخيل البعض على المشاهد والكلمات التى يعتبرها «الذوق العام» جارحة وخارجة، ولكنه يمتد إلى أى عمل سطحى وملفق وغير صادق يسعى إلى «خداع» الجمهور واستخراج ثمن التذكرة من جيبه بوسائل رخيصة.
الهبوط وصف يتعلق بطريقة الصنع وليس السلعة نفسها، الأفلام قد تدور عن الجنس، وتحمل مشاهد جنسية أو عارية، وليس معنى ذلك بالمرة أنها هابطة، والأفلام قد تحتوى على ألفاظ جريئة وشتائم نابية، ولكن ليس معنى هذا أنها بالضرورة هابطة، الأفلام أيضا قد تدافع عن القيم والأخلاق والشرف، وتحمل حوارا وعظيا تعليميا، وليس معنى ذلك أنها راقية فنية، أو أنها غير هابطة.
يمكنك أن تقارن مفهوم الهبوط بمصطلح «الغش التجارى» فى عالم الصناعة والتجارة، ربما تكون السلعة ملابس داخلية، وربما تكون أدوات مدرسية، وفى الحالتين قد تكون جيدة الصنع، أو مغشوشة، سريعة العطب وضارة بالصحة.
فى الأعمال الفنية الكبيرة تشعر دائما بأن صانعها يحترم جمهوره ويحترم الموضوع الذى يناقشه، حتى لو كان «محرجا» مثل الطبيب أو العالم الذى يتحدث فى الجنس، يقولون إنه لا حياء فى العلم، ولا حياء فى الفن الراقى أيضا.
فى الأعمال «الهابطة» تحرج، أو تضحك، والاثنان رد فعل واحد على الشعور بالخجل الذى يلعب عليه صناع هذه الأعمال.. ولكن لماذا نشعر بالخجل، ولماذا نحتاج إلى هذه الأعمال التى تثير خجلنا؟
الإجابة.. الأسبوع المقبل.
كنت قد انضممت إلى عضوية «نادى سينما القاهرة»، ومعتادا على التردد على المراكز الثقافية الأجنبية، ومشاهدة أفلام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وكلها منافذ تعرض الكثير من روائع السينما العالمية بدون حذوفات رقابية، وكانت هذه الأفلام تحمل الكثير من مشاهد العرى والجنس التى كانت شيئا نادرا للغاية وقتها، ومع ذلك لا أتذكر أننى شعرت بالحرج أو الإثارة خلال مشاهدة هذه الأعمال.
على العكس تماما كان ينتابنى الخجل والشعور بأننى فى مكان «مشبوه» وأنا أشاهد بعض الأفلام المصرية التى تحتوى على مشاهد إغراء، غالبا ما تقتصر على امرأة تعرى جزءا من كتفيها أو ساقيها أو أعلى صدرها، وتتمايل وتتثنى كالحية وتتكلم بطريقة غير طبيعية، على طريقة هند رستم وأحمد رمزى فى فيلم «ابن حميدو»، أو حتى تقتصر على بعض الإيحاءات اللفظية والتلاعب بالكلمات على طريقة أحمد رمزى وكاريمان فى فيلم «بنات اليوم».
طالما حيرتنى هذه المفارقة، ولكن بعد عمر طويل اكتشفت السر أثناء قراءة كتاب ألمانى ضخم من ثلاثة أجزاء بعنوان «تاريخ الخجل».. يرصد التاريخ الاجتماعى والثقافى لفكرة «الخجل» أو «الحياء» العام، والطريقة التى عملت بها السلطات السياسية والدينية على جعل الأفراد يخجلون من أشياء بعينها، والطريقة التى يلعب بها الفنانون وصناع الترفيه والتسلية على هذه الأشياء المخجلة لينتزعوا الضحكات أو مشاعر الإثارة من الجمهور.
الملحوظة الثانية أننى وجدت نفسى، لأسباب لها علاقة بالتربية والثقافة، أحب النوع الأول وأحتقر النوع الثانى.
لكننى.. بعد عمر أطول أجد نفسى الآن متلبسا بالدفاع عن هذه الأعمال «الهابطة».
من المحرج بالطبع أن يجد المرء نفسه متلبسا بالدفاع عن أفلام يعتبرها «الرأى العام» تافهة ومبتذلة، بل وضارة بالذوق الرفيع والأخلاق الحميدة.
لا أنكر أننى استشعرت الحرج قليلا وأنا أكتب هذا المقال، ليس لأننى لا أؤمن بما فيه وليس لأننى أعتقد أن فيه ما يتناقض مع عدائى للهبوط والابتذال، ولكن لأننى أعرف أن الكثيرين سيكتفون بقراءة العنوان، ثم يكيلون الاتهامات التى قد تتراوح من وصمى بنصير الهبوط وحتى وصمى بأننى «أقبض» من أصحاب هذه الأعمال الهابطة.
لا أحب الأفلام «الهابطة»، ومعظم أفلام السينما المصرية «هابطة» لا أشاهدها إلا مضطرا بحكم عملى كناقد وصحفى، ولولا ذلك لاقتصرت مشاهداتى على الأعمال الكبيرة لكبار السينمائيين العالميين والمصريين، وحتى لا يسارع أحدكم باتهامى بالانحياز ضد أفلام بلدى أضيف أننى لا أحب كذلك معظم الأفلام الهندية ولا معظم الأفلام الأمريكية.
لا أميل بشكل عام إلى ما يسمى بالفن السائد، الذى يصنع لعموم وعامة الناس، ويتسم عادة بالخفة والاستخفاف، باستثناء تلك الأعمال المصنوعة ببراعة وإتقان شديدين، والتى تحمل مستويات متعددة من الأفكار والمعانى.
لكننى، بحكم عملى ومتابعاتى وقراءاتى، أدرك أن الفن السائد غالب، وأنه الأساس، وأن الناس لا يستطيعون الاستغناء عنه، وأنه رغم كل الانتقادات، مفيد وضرورى لحياتهم، مهما كانت درجة تفاهته.
منذ عقود ونقاد وصحفيو الفن يطلقون عددا من المصطلحات الطريفة يصفون بها الموجات المتتابعة من «الهبوط» مثل «سينما المقاولات»، «أفلام نادية الجندى»، «أفلام المخدرات»، أو مصطلح «أفلام السبكية» الذى يتداول منذ عدة سنوات.
هذه المصطلحات تصف موجات من الأفلام التى تظهر فى فترة متقاربة وتتشابه فيما بينها فى بعض العناصر الفنية، قد تكون طريقة الإنتاج، أو الموضوع والتيمة الأساسية، أو الممثلين الرئيسيين.. غالبا ما تتوجه إلى القطاعات الشعبية أو الطبقة الوسطى الدنيا التى لا تعرف من الفن سوى جانبه الترفيهى.
من الطريف أن «طرافة» هذه المصطلحات لا تقتصر على التى تحمل رأيا سلبيا، بل إن واحدا من أطرفها هو «السينما النظيفة» الذى يقصد به مديح موجة معينة من الأفلام، ولكن مع الوقت تحول المصطلح إلى مادة للسخرية من هذه الأعمال وصناعها، لأنها فى الأول والآخر لا تهدف لشيء سوى استرضاء الجمهور، بغض النظر عن القناعات الشخصية لأصحاب هذه الأفلام، فالمهم هو السير وراء «الذوق العام» الذى كان يطلب أفلاما تخلو من المايوهات والقبلات.
الهبوط الفنى، إذن، كما أتصوره، لا يقتصر كما يتخيل البعض على المشاهد والكلمات التى يعتبرها «الذوق العام» جارحة وخارجة، ولكنه يمتد إلى أى عمل سطحى وملفق وغير صادق يسعى إلى «خداع» الجمهور واستخراج ثمن التذكرة من جيبه بوسائل رخيصة.
الهبوط وصف يتعلق بطريقة الصنع وليس السلعة نفسها، الأفلام قد تدور عن الجنس، وتحمل مشاهد جنسية أو عارية، وليس معنى ذلك بالمرة أنها هابطة، والأفلام قد تحتوى على ألفاظ جريئة وشتائم نابية، ولكن ليس معنى هذا أنها بالضرورة هابطة، الأفلام أيضا قد تدافع عن القيم والأخلاق والشرف، وتحمل حوارا وعظيا تعليميا، وليس معنى ذلك أنها راقية فنية، أو أنها غير هابطة.
يمكنك أن تقارن مفهوم الهبوط بمصطلح «الغش التجارى» فى عالم الصناعة والتجارة، ربما تكون السلعة ملابس داخلية، وربما تكون أدوات مدرسية، وفى الحالتين قد تكون جيدة الصنع، أو مغشوشة، سريعة العطب وضارة بالصحة.
فى الأعمال الفنية الكبيرة تشعر دائما بأن صانعها يحترم جمهوره ويحترم الموضوع الذى يناقشه، حتى لو كان «محرجا» مثل الطبيب أو العالم الذى يتحدث فى الجنس، يقولون إنه لا حياء فى العلم، ولا حياء فى الفن الراقى أيضا.
فى الأعمال «الهابطة» تحرج، أو تضحك، والاثنان رد فعل واحد على الشعور بالخجل الذى يلعب عليه صناع هذه الأعمال.. ولكن لماذا نشعر بالخجل، ولماذا نحتاج إلى هذه الأعمال التى تثير خجلنا؟
الإجابة.. الأسبوع المقبل.