الخميس 05 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

عن مبارك والغريزة وشهوة صاحبة الجلالة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا مجال أمام واحد منا، نحن المنتمين للجماعة الصحفية، لأن يزايد على موقف الزملاء في صحيفة اليوم السابع، مدعيا أنه كان سيرفض نشر التسجيل الصوتي لآراء الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.
فالشهوة الصحفية تتملكنا جميعا في مثل هذه الحالات، وقد يشجع مناخ الحرية تلك الشهوة على أن تمضي في اندفاعها دون لجام يكبحها.
ولأن الشهوة هنا ترتبط بالغريزة الصحفية في البحث عن الحقيقة ونشرها، فلابد لها من لجام يحفظ عليها إنسانيتها، فهي دون ذلك تبتذل المهنة، والتمادي فيها يجعل الكلمة العليا للغريزة لا للعقل، وحينها يصبح النشر بلا سقف أخلاقي، على نحو يُسلِّع دور صاحبة الجلالة، بمعنى أنه يجعلها مجرد سلعة تلبي الاحتياجات الغريزية لدى القارئ، دونما اعتبار بمنظومة قيمه.
على أية حال، حسنا فعلت اليوم السابع بنشر هذا التسجيل الصوتي، ليس لأهمية ما ورد فيه، ولكن لأهمية ما أثير عقب نشره من جدل، تراوح بين اتهام هذا السبق الصحفي بالسقطة الأخلاقية من قبل الصحيفة والطبيب مسرب التسجيل، وبين اعتبار السبق تلبية لحق القارئ في المعرفة.
لا خلاف من الناحية الحرفية على أنه سبق صحفي، لكن المستمع للتسجيل الصوتي يكتشف بسهولة أن الرئيس السابق لم يخطر مسبقا بأن حديثه المسجل سيعد للنشر الصحفي، فقد يكون على علم بأن هناك تسجيلا لصوته لإجراء بعض الاختبارات لقدارته السمعية، لكن المؤكد وبشكل قاطع، أنه كان يتحدث على طبيعته، لطبيبه الذي يثق فيه، لا لجاسوس وخائن للامانة .
أؤكد ثانية أن شهوتي الصحفية كانت ستدفعني، ودون تفكير، إلى اتخاذ قرار نشر التسجيل الصوتي فورا ، لكن الاستماع لصوت الرئيس السابق، وإصرار طبيبه غير الأمين على استنطاقه، ذكَّراني بنشر صورة جثة الرئيس الأسبق محمد أنور السادات بعد تشريحها، قبل بضعة سنوات في جريدة الميدان، ففي الحالتين امتهان للرجلين، وانتهاك لكل معاني الخصوصية.
لا فارق أبدا بين نشر كلمات وبضع عبارات مقتضبة قالها مبارك على فترات متباعدة، ونشر صورة جثة سلفه مشوهة، وليس من الأمانة اعتبار تلك الكلمات والعبارات المجمعة عبر أيام حوارا صحفيا أو حتى تصريحات، قد لا تكون هناك مخالفة قانونية ارتكبتها اليوم السابع، والجرم كله يقع على عاتق ذلك الطبيب الخائن لأمانته، لكن ألا يستحق الأمر أن نفكر قليلا، ونتساءل على الأقل، هل من حقنا، نحن الصحفيين، أن نتجسس على الآخرين في مثل حالة التسجيل الصوتي لمبارك، فالأمر لا يتعلق باقتناص مستندات ووثائق تفضح وقائع فساد، الأمر مختلف تماما، وجميعنا فعل مثل هذا الشيء من أجل الحصول على مستند أو وثيقة ورقية أو صوتية أو مرئية، تثبت واقعة فساد معينة.
أعترف انني شخصيا انتهزت ثقة أحد رؤساء هيئة الآثار السابقين، ليس في شخصي، ولكن في أن كف بصري سيمنعني من اقتناص مستند كان قد وضعه على مكتبه قبل أن يغادره، وحالفني الحظ ووقعت يدي على المستند الذي كنت أبحث عنه ببعض التركيز، في صوت المكان الذي لامسته يده وهو يضع المستند، حينها نشرت ما بالمستند من معلومات مؤكدة، دون أن أشير إلى مصدره، بل إنني قمت بإعادة المستند إلى الرجل، دون حتى تصوير أية نسخة منه، بعد أن اكتشف مافعلته، على أية حال ، لم أخسر علاقتي بالرجل، لأن غالبية المعلومات كانت لدي وسألته عنها، وكل ما كنت أحتاجه هو مستند يثبتها، ربما ظلت العلاقة طيبة لأن المستند الذي اقتنصته كشف كذبه وإنكاره للحقيقة التي سألته عنها.
مثل هذه الجرائم الصغيرة ترتكب في الأساس بسبب غياب الشفافية والنزاهة وحجب المعلومات، وأخشى ما أخشاه أن يتحول مناخ الحرية إلى فوضى تسمح بارتكاب جرائم أخرى تخرق القيم الأخلاقية.
إن نشر صورة عارية في بعض المجلات الفنية ليس هو الأمر الذي يعنيني هنا، فطالما وجدت مثل هذه الصور ورقية في السابق، واليوم تتداول على المواقع الإلكترونية، بل إن منها مواقع إباحية، ومع ذلك لا تهدد مثل هذه الأشياء منظومة القيم الأخلاقية، بل قد لا تمسها أصلا، لأن الباحث عنها يدرك تماما حجم المسافة بينها وبين قيمه.
لكن نشر كلمات وعبارات مقتضبة، سجلت خلسة، لرجل مثل مبارك، له هذا الحجم في التاريخ المصري - بغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك معه - عن طريق التآمر مع طبيب خائن لأمانته، أعتقد أنه أمر يطعن القيم المجتمعية في مقتل، لأنك وببساطة تعود الناس على أكل جثث بعضهم البعض، فليست النميمة أو الغيبة وحدها ما ينطبق عليها هذا التشبيه .
للصحافة بأشكالها المختلفة وظيفة، وهي البحث عن الخبر الصحيح، وإعلام الناس بحقيقة ما يدور حولهم، وكلما مارست هذه الوظيفة متحريا الصدق والشرف، انتقلت من مستوى أداء الوظيفة إلى مستوى أداء الدور.
فإذا كانت وظيفتي كصحفي هي البحث عن الخبر ونشره، فإن دوري هو ترسيخ القيم الأخلاقية العليا، وتنقيح السلبي من منظومة القيم المجتمعية، وذلك الدور لن يتأتى إلا باحترام عقل القارئ، وتلبية احتياجاته الفكرية لا الغريزية.
صحيح أن الإثارة مطلوبة، بل إنها عمود العمل الصحفي، لجذب القارئ، لكن ليس إلى حد انتهاك حرمات الناس .
من المقبول أن تنشر صورة لفنانة وهي ترتدي فستان سهرة عاريا، لكن ليس من المقبول التجسس عليها، واختلاس صورة لها وهي عارية تماما.
نشر حديث الرئيس الأسبق حسني مبارك، على هذا النحو الذي جرى، لا يختلف كثيرا عن اختلاسك لصورة احداهن وهي عارية.
نحن بصدد البحث عن مناخ للحرية، يعترف بحق جميع المواطنين في الحصول على المعلومات، ويمنح الجميع حق حرية التعبير عن الرأي، واعتقد أننا تجاوزنا من الناحية العملية أسقفا وخطوطا عديدة كانت في الماضي حمراء، لذلك آن الآوان لنناقش مثل هذه القضايا حفاظا على دور صاحبة الجلالة، وحتى يظل العقل فيها هو المسيطر على الغريزة .