إن كان لى فى هذه الحياة من أصدقاء. فلا بد أن «أحمد يونس» على رأس قائمة هؤلاء. هو ليس صديقًا. أقول له أحياناً إنه من «بقية أهلى». نحن أسرة لا تتشابه أسماؤها. أبونا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين ومختار، صاحب تمثال نهضة مصر، وصلاح جاهين وبيرم التونسى. وأمنا مصر النيل والحوارى والحسين وجاردن سيتى ودمياط ورشيد!
الناس يعرفون الدكتور أحمد يونس الكاتب الصحفى الرقيق صاحب العمود الصحفى الشهير «بين قوسين» فى جريدة «الأخبار» القاهرية. لكنى كصديق أعرفه باسمه الحقيقى وهو «كاباكا». الذى يناديه به الأطفال المعوقون فى مصر. إن أحمد يونس الذى حرم من نعمة البصر. وأنعم الله عليه بنعمة البصيرة والقلب الجميل. جعل من نفسه طوال سنوات «الأب الروحى» للمعوقين فى مصر. ويزيد عددهم على ثلاثة ملايين معوق. اختار بقلب شجاع أن يتصدى لحل مشاكلهم وحمّل على كتفيه همومهم. وهم المعوقون الذين منحوه اسم «كاباكا». وكثيراً ما كنت عندما أذهب لزيارته فى بيته. أجد بعضاً من هؤلاء المعوقين. يقفون على باب بيته. وينادون عليه بأعلى صوت، ليحكوا له مشكلة أحدهم. أو لمجرد إلقاء التحية عليه!
والغريب أننى بعد كل هذه السنوات. لا أذكر متى وكيف توطدت صداقتى بالدكتور أحمد يونس. وهو ابن أستاذى فى الجامعة الدكتور عبدالحميد يونس أستاذ الأدب الشعبى والتراث الكبير. والذى كان محروماً أيضاً من نعمة البصر. لكن أجيالاً تخرجت على يديه. وقدم للمكتبة العربية أغلى موسوعة للتراث الشعبى فى مصر.
فى شبابه كما مع الدكتور طه حسين سافر أحمد يونس من أجل العلم إلى إسبانيا. لا يحمل سوى حقيبة سفر صغيرة وقلب كبير برىء. ورسالة رائعة كتبها له الدكتور طه حسين صديق والده.
وروى أحمد يونس فيما بعد تفاصيل أول ليلة فى غربته، سنوات الدراسة فى الأندلس قائلاً: الدنيا كانت ليلاً. والمطر كما لم أره من قبل. خيل إلىّ أن هناك نافورة ضخمة بالمقلوب. معلقة من قاعدتها فى سقف العالم.. رحلة اغترابى كانت قد بدأت عملياً. عندما حاولوا انتزاعى بالقوة من بين ذراعى أمى. منذ اثنتى عشرة ساعة تقريباً. كان السفر فى النصف الثانى من الستينيات. أكون كاذباً لو قلت إننى فى الطائرة كنت وحدى. كانت برفقتى حقيبة صغيرة. وكانت معى أيضاً صديقتى «الوحدة». ولم نفترق من يومها أبداً. أنا وحقيبتى والوحدة.
«لحظة الرحيل.. تراجعت أمى فجأة عن إذاعتها لفكرة أن الوقت قد حان لكى أتوجه إلى صالة المغادرة. تشبثت بى على نحو أصاب الكثيرين الذين أتوا لوداعى بالعجز عن التصرف. كما لو كنت أساق إلى غرفة الإعدام!
تنتهى رحلة الطائرة بعد ساعات. ويهبط أحمد يونس الشاب إلى مطار باراخاس. مع حقيبته الصغيرة و«الوحدة» صديقته. وهو لا يعرف من اللغة الإسبانية غير كلمة «سى». أو نعم. وحلم غامض من خياله. وكانت تلك كل ثروته لمواجهة السنوات التالية فى إسبانيا. مواجهة مفعمة بكل أنواع التجارب والأفكار والأحاسيس. سنوات غنية بكل شىء. حتى بالفقر. بالذات بالفقر!
ماذا يمكن أن يفعل هذا الشاب المصرى المحروم من الإبصار. فى عاصمة أوروبية مثل مدريد حافلة بكل شىء؟
يقول أحمد يونس: الأمر كان مسألة حياة أو موت. إما أن أتكلم مع البشر. أو أن أقول بالإسبانية إننى جائع. أو بلا طعام. إما أن أقول إننى تائه. أو أختار الأكثر شاعرية من بين أرصفة الشوارع المغطاة بالجليد. لآكل عليه «رز بلبن مع الملايكة»! وعلى ناصية الأسبوع الأول لى فى مدريد شعرت بأننى أرتجف. ليس لأن درجة الحرارة كانت دون الصفر بكثير. بل لأن مدفئة القلب كانت فى أمس الحاجة إلى نار التعانق بالملاغاة!
ويبدأ أحمد يونس رحلة العمر والعلم فى إسبانيا. فماذا يفعل وهو لا يتكلم ولا يقرأ الإسبانية. وأى طريقة سيلجأ إليها لتعلم هذه اللغة الصعبة؟
يقول: قررت أن أتعلم الإسبانية بالمقلوب. هكذا سأتعلمها. كونى لم أسمع بأن أحداً فعل ذلك من قبل. لا يعنى ألا أجرب. بالعكس. الطرق الغريبة دائماً هى الأدعى إلى الارتياد. الطرق التى تبدو من خلف الضباب كأحرف التعاونية السرية القديمة. هى التى تستحق أن يطأها، لا ينامون إلا على دوى الرعد فى المدارات القطبية. هؤلاء الذين كالسندباد لا يخافون من جنيات البحر.
هكذا ذات صباح من ديسمبر توجهت أقيد نفسى فى قسم تدريس اللغة العربية إلى الإسبان. الجميع استغربوا. البنت ذات الضفائر الكستنائية فى شباك السكرتارية. الأساتذة والطلاب وحتى السعاة. وهكذا أصبحت الولد المتخلف الذى يتسابق الجميع لينهلوا من علمه. بما فى ذلك الأساتذة. الولد الجهبذ الذى لا تفوته شاردة أو واردة من طلاسم اللغة العربية. بالنسبة لهم على الأقل. وامتلأت حياتى من يومها بالمشاعر العاصفة. بكل أنواع التجارب بلا استثناء. ولم تكن اللغة الإسبانية هى الشىء الوحيد الذى تعلمت خلال تلك السنوات أن أتقنه!
ترى ماذا تعلم الشاب أحمد يونس فى الأندلس غير اللغة الإسبانية؟.. الأسبوع القادم نعرف