بعيدًا عن عدسات كاميرات الفضائيات، هناك آلاف مؤلفة من الأبطال يحمون هذا البلد، ويدافعون عنه دون مقابل، يسيرون فى صمت، يضحون فى صمت، يدفعون دماءهم ويضعون أرواحهم على أكفهم فداء هذا الوطن فى صمت، وحينما يموتون يرحلون أيضا فى صمت، لا يتاجرون بتضحياتهم، ولا يبحثون عن مكاسب أو مناصب، أنهم حماة هذا الوطن، على هذه الأرض كثير من هؤلاء الأبطال الذين يستحقون التحية والسلام.
فالصدفة وحدها قادتنى إلى لقاء أحد هؤلاء الأبطال الأسبوع الماضى، تصادفت جلستى بجواره أثناء الانتظار داخل عيادة أحد الأطباء، شاب أربعينى، معه طفل عمره لا يتجاوز الثلاث سنوات، تعلقه الشديد بوالده لفت انتباهى، طوال الوقت الطفل جالس على حجر أبيه، يلف يديه الصغيرتين حول رقبته، يقبله أحيانا، ويحتضنه كثيرا، ويرفض كل محاولات الأب إبعاده عنه خوفا عليه من حرارة جسده المرتفعة بفعل الحر، إلا أن الطفل كان يرفض كل هذه المحاولات، تصرفات الولد دفعتنى لسؤال أبوه عن سبب تشبث الطفل به بهذا الشكل غير المعتاد؟. أخبرنى الشاب أن أبنه لا يره إلا أيام قليلة كل ثلاثة أشهر، بعدها يتركه ويذهب إلى عمله.
الشاب يتحدث بتواضع شديد وأدب جم، كان هذا جليًا ليس فقط فى كلامه معى، بل كان واضحا أيضا فى طريقة تعامله مع طاقم عمل العيادة.
دورنا فى الكشف كان فى آخر قائمة الانتظار، فأتاح لنا وقتا لنتجاذب أطراف الحديث، فكان حديثا ثريًا مليئًا بالمفاجأت، أبرزها أن هذا الشاب هو أحد أبطال رجال الشرطة الذين يدافعون عن أرض سيناء الغالية، وشارك فى الدفاع عن أحد الأكمنة فى مدينة العريش التى تعرضت للهجوم الإرهابى أكثر من 20 مرة، وشاهدا على استشهاد العديد من زملائه وأصدقائه الذين ضحوا بدمائهم وهم يدافعون عن هذا الوطن، وفى كل مرة كانت تكتب له النجاة.
شعرت أننى محظوظ لأنى قابلت أحد هؤلاء الأبطال الذين يعملون فى صمت وعزة، وبنزعة الصحفى، وفخر الوطنى، أفضيت إليه كل ما فى جعبتى من تساؤلات وأسئلة تدور فى ذهنى حوله، هو وأمثاله من أبطال الظل، وكان رحبا ودودا صادقا فى كل إجاباته.
عرفت منه أنه يخدم الوطن فى سيناء منذ ثلاث سنوات، وأن بداية خدمته كانت مع مذبحة رفح (التى قادها الإرهابى عادل حبارة، وراح ضحيتها 25 جنديًا مصريًا) وأكد البطل الشاب أن هذه المذبحة كانت فارقة بالنسبة له أذ أقسم بعدها أمام الله أنه لن يعود لأداء واجبه فى القاهرة أو فى أى مكان أخر فى مصر، إلا بعد تطهير سيناء من الإرهابيين، وقال: "كل مرة يحدث هجوم أرهابى ويسقط ضحايا، تزداد صلابتى وإيمانى بالله، وإصرارى على مواصلة واجبى، ولأنى قضيت فترة خدمة كبيرة فى العريش عَرَضَ علىّ قادتى أكثر من عشر مرات العودة إلى عملى فى القاهرة لكنى رفضت، وأقسم بالله أنى لن أعود إلى القاهرة إلا بعد القضاء على آخر إرهابى على أرض سيناء".
سألته: "قضيت فى العريش فترة كبيرة وهى كلها قبائل وعائلات معروفة، هل الإرهابيين أشخاص مجهولين؟" أجاب: "بصراحة فى البداية كانوا مجهولين، لكننا اكتشفنا بعد ذلك أن منهم أشخاصًا كنا نراهم يتحركون أمام أعيننا فى الشوارع متخفين فى هيئة مواطنين عاديين، والبعض منهم كان «عِشرة» يلقى علينا السلام نهارًا، ثم يرمى علينا القنابل ليلا، ويضربنا بالأسلحة الآلية والثقيلة، منذ ذلك الوقت أصبحنا لا نطمئن لأحد، وعلى كلا نحن الآن وبكل فخر، أصبحنا نسيطر على الوضع بأكثر من 90٪، والقضاء على هذه الجماعات أصبح مسألة وقت".
صلابة البطل فى إجاباته دفعتنى لمعرفة ما هو شعور زوجته وأهله وهو فى العريش معرضا للاستشهاد فى كل لحظة، طرحت عليه هذا التساؤل فقال: "والله العظيم شعور عائلتى هو نفس شعورى، هم يعلمون أننى فى مهمة وطنية، وأننى بين يدى الله سبحانه وتعالى وفى كل إجازة أوصيهم ألا يحزنوا إذا ما اصطفانى الله واستشهدت، فأنا سأكون مع زملائى وأصدقائى فى الجنة".
قبل أن أتركه حاولت أن أعرف انطباعه عن ما يدور فى الإعلام من إعلاميين وضيوف يتوهمون إنهم يخدمون هذا الوطن بما يقدمون، فسألته: ما رأيك فى أداء الفضائيات وبرامجها، وهل تتابع تحليلات النشطاء السياسيين والخبراء الإستراتيجيين لما يدور فى البلد، وما يقال عن سيناء وما فيها؟ قال البطل: "ليس لدى وقت لمشاهدة هذه البرامج ومتابعة هؤلاء، أنا فى رباط على أرض العريش حتى يأذن الله لى إما بالاستشهاد أو تطهير سيناء كاملة وعودتها إلى سابق عهدها".
هذا البطل يدعى "فرحات"، سجلوا أسمه فى دفاتركم، وأدعو الله أن يحفظ هذا البطل، هو ومن معه من شر الخونة والقتله، فهناك على جبهة الحرب على الإرهاب آلاف الـ "فرحات"، يسهرون لحماية هذا الوطن، من أجل أن نعيش بأباء وأمان، غير مبالين بالمناضلين المدعين، الذين يظهرون فى وسائل الإعلام وبرامج الـ"توك شو" يعرضون علينا زورهم بكل أريحية.