لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أدخل فيها بيت عصفور الشرق الأديب الكبير الراحل توفيق الحكيم. المرة الأولى دخلته ضيفًا عابرًا. ولم تتح لى الظروف الفرصة كى أرى البيت على مهل.
وبيت توفيق الحكيم أو بالأحرى شقته التي عاش فيها معظم سنوات عمره. تقع في الطابق الخامس من بناية قديمة إنجليزية الطراز على نيل القاهرة في حى جاردن سيتى. بالقرب من السفارة البريطانية وفندق شبرد الشهير.
في هذا البيت ومنذ رحيل الحكيم تعيش ابنته زينب وأحفاده منها. ويحسب للسيدة زينب الحكيم أنها حافظت بعد رحيل والدها على كل شىء في البيت كما هو. وكما كان وقت أن كان الحكيم يعيش فيه.
وأول ما يقابل الداخل إلى البيت بهو صغير وبعض مقاعد فرنسية الطراز. يؤدى مباشرة إلى ما نسميه «حجرة الصالون» المخصصة لاستقبال الضيوف. وتتصدر جدران الحجرة الصورة الشهيرة لتوفيق الحكيم. وهو يضع يده على «خده». ونظراته حائرة ساهمة. ولا أعرف لماذا كلما تطلعت إلى هذه الصورة يظهر أمام عينى عنوان مسرحية «السلطان الحائر»! هنا كان يجلس الحكيم تقول ابنته زينب، لكنه عادة كان يفضل الجلوس في غرفة الحجرة. والتي لا يوجد فيها سوى مقعدين ومنضدة صغيرة. وكان الحكيم يحرص كل يوم على مشاهدة غروب الشمس على نيل القاهرة من مجلسه في الشرفة.
وفى مجلسه بهذه الشرفة كان يزوره وحى الأدب. وولد الكثير من أفكار أعماله الأدبية والمسرحية مثل «عصا الحكيم» و«إيزيس» و«يا طالع الشجرة». وأيضًا «سجن العمر» و«عودة الوعى» و«مصير صرصار». وغيرها من أعمال الحكيم الشهيرة.
هل كانت كل أعمال الحكيم من وحى خياله فقط؟
لا أظن. لقد كان الحكيم مفكرًا حقيقيًا. لكنه في أغلب أعماله إن لم تكن كلها اعتمد على وقائع الحياة. ليصوغ منها أفكاره في أعمال أدبية تأثرت بها أجيال عديدة في عالمنا العربى.
الحكيم نفسه يعترف بذلك في مقدمة مسرحيته «مصير صرصار». ويقول في مقدمتها: «لا أستطيع تخيل عمل فنى تخيلًا كاملًا. لا بد لى من ركيزة. ولتكن صغيرة. من حقيقة أو واقع. ولقد رأيت في الواقع صرصارًا يكافح للخروج من حوض حمامى.. ما أروع منظر الإصرار على كفاح لا أمل فيه»!
على أن توفيق الحكيم لم يكن ليتخلى أبدًا عن روح السخرية التي كانت إحدى صفاته اللصيقة. فيقول في نفس المقدمة: «منذ كتبت عن الصراصير. وهى تحوم حولى في الحجرة في ألفة وبدون كلفة. ولست أدرى ما سر اهتمامى بالحشرات. إلا أن يكون بى عرق حى قدماء المصريين. الذين كانوا يجمعون الحشرات والإنسان في هيكل واحد. فهذا تمثال له رأس جعران وجسم إنسان»!
وأعود إلى بيت الحكيم..
ثمة ردهة طويلة تفصل باقى حجرات البيت عن مقدمته. وفى هذه الردهة مكتبة حائط قديمة. تتكدس فيها مئات من الكتب والمخطوطات الثمينة. التي كانت تخص أديبنا الكبير الراحل. وهى ثروة لا تقدر بثمن. وتضم أمهات كتب الفكر والأعمال الأدبية العالمية الشهيرة.
ولقد حرصت السيدة زينب توفيق الحكيم على أن تبقى حجرة نوم والدها كما هي على حالها. وهى حجرة نوم عادية، وإن كانت جميلة رغم بساطتها ولا يميزها سوى صورة على الحائط لتوفيق الحكيم وزوجته. ومكتب صغير كان يجلس إليه. وعندما يريد تدوين ما يطرأ له من أفكار سريعة.
وتحتفظ السيدة زينب الحكيم بالمئات من الرسائل التي كتبها لها والدها توفيق الحكيم في مناسبات مختلفة وعبر سنوات طويلة منذ طفولتها. لأنها ليست مجرد رسائل عادية من أب إلى ابنته. لكنها قطع أدبية نادرة. حاول فيها الحكيم. أن يرسم صورة حقيقية للحياة كما يراها. ومبادئه وأفكاره إلى ابنته. لعل هذه الصورة تساعدها في حياتها. بعد انتهاء زيارتى وفى طريقها لتوديعى إلى خارج البيت. مررت مع ابنة الحكيم مرة أخرى بمكتبة الردهة الطويلة. استأذنتها في أن آخذ أي نسخة من أعمال الحكيم. ابتسمت موافقة بترحاب. ووقعت يدى بالمصادفة على كتابه الرائع «في الوقت الضائع».
كثيرون ممن يمتهنون مهنة الأدب تموت أعمالهم تقريبًا. إذا هم ماتوا ورحلوا عن الدنيا. خاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه الأدعياء. حتى في العلوم والآداب والفنون. لكن الأديب الحق يموت وتبقى أعماله نابضة بالحياة رغم مرور الزمن. زاخرة بالمعانى الإنسانية لمن يريد أن ينهل منها.
وفى أحد فصول كتابه هذا «في الوقت الضائع» يروى توفيق الحكيم تأملاته. عندما ترك العمل في الحكومة. وجلس على المقهى عاطلًا يائسًا. وهو يتمنى لو انتهت حياته!
وهنا يتخيل الحكيم أنه شاهد عزرائيل أمامه. ثم أدار معه حوارًا حول فلسفة الموت! هكذا تخيل الحكيم أولًا أنه مات وأن المشيعين في جنازته ساروا خلف نعشه حزانى.
لكنه يتساءل: آه لو سمع الميت ما يقال خلف النعش من كلام! ماذا كان يصنع لو علم أن هؤلاء المشيعين. لا يتكلمون عنه طوال الوقت. مع أنهم يقولون إنهم جاءوا من أجله.. إن فيهم من يستنزل اللعنة عليه إذا طال المشى! وإن منهم من يسلى نفسه وجاره أثناء السير في الجنازة بحكايات ونوادر. قد تدعو للابتسام أو الضحك المكتوم. وإن منهم من يتكلم في عمله ووظيفته وتجارته وبيته. وعمن يخلفه في العمل وعمن يرثه في التركة.
ويصف الحكيم بمرارة الجنازة: «وإن كل ما أنفق من وقت المشيعين في الخشوع لجلال الموت لا يتجاوز لحظات. وأن الصمت الرهيب. المفروض إحاطته بنعشه لم يدم أكثر من دقائق. ثم بدأ الهمس يعلو. والهمهمة ترتفع، والثرثرة تدوى بين الصفوف كطنين الذباب. ذلك أن الناس غير قادرين على نسيان أنفسهم والسمو عن هذه الأرض. والارتفاع عن شئون حياتهم العادية. ودنياهم الفانية أكثر من دقائق»!
ويتعجب توفيق الحكيم: ومع ذلك لماذا نريد من الناس الوقوف أمام الموت موقفًا أجلّ من هذا؟ وهو بعيد عنهم ومختبئ داخل هذه الخشبة المكسوة بقماش. يتفق مع حالة الميت وسنه ونوعه. إن الموت لا يعنى شيئًا إلا في نظر الميت نفسه. إذا كان يشعر أو يدرك. وإن رحمة الله ورأفته قد جنبته الشعور والإدراك بهذه اللحظة. التي يرى فيها. الدنيا التي ألفها. قد بعدت عنه. كما تبتعد المحطة عن أنظار المسافر في القطار. ويرى المودعين ينصرفون من باب المحطة. إلى شئونهم ضاحكين راضين بانتهاء قيامهم بواجب التشييع والتوديع. وانتهى الأمر على ذلك!
يقول الحكيم: «ماذا كان يقول الميت في هذا لو أعطى القدرة على الإدراك والكلام. أنا شخصيًا أعتقد أن الميت لن يقول شيئًا. فالميت إذ يجتاز عقبة العالم الآخر. ويدخل منطقة «الصفاء». ينظر إلى الناس وأحوالهم ودنياهم من علٍ. كما ينظر الإنسان إلى سرب من النمل. يحمل جناح صرصور. إلى ثقب في أسفل الحائط. إنه يستكثر على الناس مجرد التحرك في تابوته. لينظر ما يفعلون ويقولون.. حتى ولا مجرد الابتسامة الساخرة منهم. ومن أحوالهم تعلو شفتيه الجافتين»!
على باب بيته..
أخرج من خيالى الذي أدخلنى فيه الحكيم بوصفه الإنسانى لجنازة الإنسان. أي إنسان. ربما جنازته شخصيًا.
أقول لزينب الحكيم وهى تودعنى: أتمنى أن تضعى رسائل والدك توفيق الحكيم في كتاب لعله يكون مرشدًا لأجيال تحتاجه.
- تقول: من أخبرك.. هذا ما أعمل عليه الآن!