الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

العقاد.. باع مكتبته لكي يأكل!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تخصصنا نحن العرب فى الهجوم على الأنبياء. وكراهية العباقرة والموهوبين. ونسيانهم وتجاهلهم وعدم تقديرهم أو تكريمهم!
شموع عديدة أصيلة فى تاريخنا أضاءت لنا فى حياتها. وما زال قبس من ضوئها ينير لمن يرغب. حتى بعد رحيل هؤلاء عن دنيانا!
من هذه الشموع الفيلسوف عباس محمود العقاد. عملاق الأدب واللغة العربية. الذى أضاء بإبداعاته جيلًا بعد جيل.
ورغم ذلك فإن بيت العقاد لم يتحول إلى متحف. تمامًا كما تحولت فيلا أم كلثوم إلى فندق يشربون فيه الشاى بالنعناع ويدخنون الشيشة!
ولقد قدم العقاد أكثر من ٨٠ كتابًا قيمًا للمكتبة العربية. وكان له تلاميذ يسمعون آراءه ويناقشونه ويجلسون حوله. كما كان تلاميذ سقراط يحيطون به.
ودخل العقاد ميدان السياسة وهو فى أوج الشباب. وكان قبل ذلك يكتب مقالات فى الأدب والعلم، ومن هذه المقالات اكتشفه الزعيم سعد زغلول. وكانت مقالات العقاد أيام ثورة ١٩١٩ منشورات سياسية ساخنة. وقذائف بارود ضد الاستعمار البريطانى وأعوانه.
وكان سعد زغلول يطلق على العقاد لقب «الكاتب الجبار». وكان صاحب مبادئ وعندما اختلف مع الوفديين لم يتردد فى محاربتهم. حتى أصبح بلا جريدة يكتب فيها ويرتزق منها.
وحاول إصدار جريدة يعبر من خلالها عن آرائه. لكنها أغلقت أبوابها بعد أيام قليلة. وواجه العقاد الملك بكبرياء بينما كان يعيش فى شقة إيجارها جنيهان!
ودخل العقاد سجن مصر لمدة ٩ شهور بتهمة السب فى الذات الملكية. وكان يرى أنه لن تقوم قائمة لمصر إلا إذا تخلصت من المستعمر البريطانى. ومن حكم أسرة محمد على وأولاده.
ودخل العقاد الزنزانة وكانت المشكلة أن الزنزانة لا تضاء ليلًا. وتغلق عليه من الساعة الخامسة مساء. وتفتح له فى الساعة السادسة صباحًا.
وطالب العقاد إدارة السجن بإضاءة الزنزانة بمصباح كهربائى. لكن إدارة السجن لم تكن تملك هذه السلطة. فاتصلت بوزير الداخلية. الذى اتصل برئيس الوزراء. والذى اتصل بدوره بقصر الملك. وبعد كل هذه الاتصالات. تم السماح بإدخال مصباح كهربائى إلى زنزانة العقاد.
وفى أحد طوابير الصباح فى السجن تقرر معاقبة أحد المسجونين بعقوبة الجلد. على مشهد من بقية السجناء. وثار العقاد على إدارة السجن وعلى نظامها. وقال إننا لا نعيش فى عصر الغاب. بل عصر التقدم. وعاش العقاد تسعة شهور فى زنزانة ضيقة. وخرج من السجن عملاقًا كما دخله عملاقًا.
وكان فى غرفة العقاد وفى بيته ٤٠ ألف كتاب قرأها كلها. وقد مات بسبب جلطة دموية فى القلب. وكان يعانى من المصران الغليظ ويعرف كل شىء عنه من الناحية الطبية.
وكانت المكتبة فى حياة العقاد تعنى الكثير. وفقد العقاد مكتبته ثلاث مرات. المرة الأولى عندما سافر من أسوان إلى القاهرة. وعاد ليجدها قد تآكلت. وفى المرة الثانية باعها لكى يعيش. وفى المرة الثالثة باعها عندما أراد السفر إلى السودان!
وعاش العقاد وهو يعتمد على مورد رزق واحد هو القلم.
وبسبب قلمه دخل العقاد السجن. وتشرد وباع مكتبته ليعيش منها مع رفيق صباه عبد القادر المازنى. لكنه لم ييأس. وظل يكافح من أجل الحق والمعرفة.
وقد روى أمير الصحافة، محمد التابعى، قصة دخول العقاد إلى السجن فقد كان نائبًا فى البرلمان ووقف تحت قبة البرلمان وقال بصوت جهورى: إن هذا المجلس مستعد لأن يسحق أكبر رأس فى الدولة! وهاج المجلس. وعلا الصياح بين استحسان واستنكار، ودق رئيس الجلسة المرحوم ويصا واصف، الذى كان يومئذ رئيسا لمجلس النواب، منضدة الرياسة بيده دقًا عنيفًا وهو يصيح: لا.. لا.. لا.. أنا لا أسمح بهذا. وأمر سكرتارية المجلس بعد إثبات ما قاله عباس العقاد فى محضر الجلسة ثم رفع الجلسة.
***
ولم يكد رئيس مجلس النواب يستقر فى مكتبه حتى دق جرس التليفون.. وكانت «السراى» على الخط.. صاحب الجلالة الملك يستدعى فورا معالى رئيس مجلس النواب لمقابلته..
وتمت المقابلة... وسمعنا بعدها شيئًا مما دار بين أحمد فؤاد والمرحوم ويصا واصف، سأله أحمد فؤاد عما حدث فى جلسة اليوم وأراد ويصا واصف أن يهون من الأمر وأن يهدئ من غضب «رئيس الدولة» فقال ما معناه إن عباس العقاد أحد عبيد مولانا المخلصين. وقال أحمد فؤاد: ولكنه عبد خطر.
أو كلاما فى هذا المعنى..
***
وحققت النيابة العمومية مع عباس محمود العقاد، وانتهى التحقيق بتوجيه تهمة العيب فى الذات الملكية إلى النائب الجرىء الشجاع.. أى عملاق الأدب الذى فقده العالم العربى.
ومثل العقاد أمام محكمة الجنايات.. وتأجلت القضية مرارا بناء على طلب الدفاع، وكان الدفاع يريد أن تنظر القضية أمام دائرة أخرى غير هذه الدائرة التى كانت معروفة بقسوة أحكامها، وبأن رئيسها رحمه الله كان على صلات طيبة مع كبار رجال السراى.. أى كبار حاشية أحمد فؤاد..ونجح الدفاع فى خطته.. ونظرت قضية العقاد أمام دائرة أخرى.. وصدر الحكم بالحبس مع الشغل تسعة أشهر. ودخل العقاد السجن «سجن مصر» أو «قره ميدان» كما هو معروف عند سواد الشعب، دخله فى فصل الشتاء والبرد.
وشكا عباس العقاد من شدة البرد وقال إنه مريض. وجاء طبيب من مصلحة السجون وكانت حجرة العقاد مثلها مثل سائر حجرات وغرف السجن ذات نافذة مفتوحة إلا من القضبان الحديدية.
وبعد مكاتبات ومفاوضات بين مصلحة السجون ووزارة الحقانية «العدل» التى كانت السجون تتبعها فى ذلك الوقت وافق «معالى» الوزير على تغطية النافذة بألواح من الزجاج تفتح وتغلق حسب الحاجة. وذات يوم ذهب معالى الوزير وكان الرئيس السابق المرحوم على ماهر «باشا» يزور سجن مصر.. وفتح الحارس باب زنزانة عباس العقاد.. وهو يعلن بصوت عال «معالى الوزير». وكان العقاد متمددًا فوق فراشه.. وهنا تعمد العقاد رحمه الله أن يضع ساقا فوق ساق.. وأن تكون قدماه فى وجه معالى الوزير. ولم ينهض.. تحية واحتراما للزائر الكبير.
وقال على ماهر رحمه الله.. وكان يقف وراءه بعض كبار موظفى مصلحة السجون وضباط السجن..: نهارك سعيد يا أستاذ عقاد.
ولم يرد العقاد.. وعاد وزير الحقانية يسأل: لك طلبات يا أستاذ عقاد.. سكوت. وعدم رد.
وانصرف الوزير.. وأغلق الحارس باب الزنزانة.