تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
آلمنى كثيرًا ما صرح به وزير (العدل) من أن ابنَ عاملِ النظافة لا يصلح أن يكون قاضيًا، بانيًا حكمه هذا على عنصريةٍ بغيضة، أبعدَ ما تكون عن الكفاءة المهنية التي يجب أن تكون أساسًا للاختيار والترشيح في الوظائف العامة في الدولة. ما قاله الوزير لم يكن مستغربًا في جدة المعلومة أو حداثتها، ولكن في الجرأة على طرحها كأمرٍ واقعٍ لا فِكاك منه، أو لترسيخ هذا الأمر الواقع في أذهان الناس حتى لا يطمحوا لشغل هذه الوظائف المميزة المحجوزة سلفًا للمحظوظين من أبناء هذا الشعب، ليس على أساسِ الكفاءة أو التفوق أو الاجتهاد بل على أساس الحظوة والانتماء لطبقة مهنية معينة.
إن ما طرحه الوزيرُ المستقيل أو المُقال نكأ جِراحًا في الجسدِ المصرى كانت مقفلة، فأبى الوزير إلا أن يفتحها بهذه الغِلظة والفظاظة، وبشكلٍ يؤسس لإدارة هذا البلد بأسلوب «الوسية»، والذي كانت تُدار به منذ عصر محمد على الذي كان الصانع الأول والزارع الأول، والذي كان يحتكر الأرض بمن عليها، والمصريون فيها ليسوا سوى ملح الأرض الذين يعملون في هذه الوسية، وكان أصحابُ الحظوة لدى الوالى هم من يحصلون على الأبعديات التي تقدر بمئات أو آلاف الأفدنة التي يصبحون هم الأسياد فيها، ويصبح من فيها هم عبيدُ الأرض في هذه الوسية نظيرَ لُقيْماتٍ أو قروشٍ معدودة نظير العمل في هذه الوسية.
وللأسف أصبح مفهوم الوسية هو الأكثر تبنيًا في هذا الوطن وتم ترسيخه على مدارِ عقودٍ عديدة؛ فمبارك على سبيل المثال لم يحترم الشعب المصرى ولم يُتح الفرصة لتدعيم كيان الدولة بعيدًا عن هذا المفهوم الموروث، بل إن مبارك تعامل مع مصر كأنها وسية ورثها من السادات الذي كان نائبًا له، وأراد أن يُورثها لأولاده من بعده، وفى سبيل ذلك أغمض عينيه عن الوسايا «جمع وسية» والأبعديات «جمع أبعدية»، والتي كان التوريث يتم فيها على أشده، ولا سيما في العقد الأخير من حكمه، ولعل نظرة واحدة إلى القضاء والرياضة والفن والجامعات.. وغيرها توضح بجلاء أن هذه المجالات لم تصبح لذوى الكفاءة، ولكن لذوى الصلات العائلية سواء كانوا أكفاءً أو مجموعة من الفشلة الذين لا يستحقون ما وصلوا إليه دون جهد أو عمل حقيقى أو معايير مفاضلة حقيقية وشفافة.
لقد ثار عبيد الأرض في وسية مبارك في 25 يناير 2011، وعندما عاود الإخوان حكم مصر بمفهوم الوسية من خلال اتباع سياسة الأخونة ثار عليهم المصريون مرةً أخرى في 30 يونيو 2013، إن حكم مصر بأسلوب الوسية ذهب إلى غير رجعة، ولن يعود تارةً أُخرى. ورغم إقالة الوزير أو استقالته، ورغم ما ذكره المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء عن أن الحكومة خادمة للشعب، وأنها تحترم كل المصريين، إلا أن هذا غير كافٍ، إلا إذا كان الهدف هو تطييب الخواطر وتهدئة حالة الغضب التي انتابت المصريين من امتهانِ وزير العدل لعامةِ الشعب الذي قاد ثورتيْن ضد هذه الأوضاع.
إن هذه القضية تطرح أمريْن مهمين: أولهما أنه آن الأوان أن يفتح الرئيس السيسى ملف التوريث في كل القطاعات، ويمكننا أن ندعمه بإجراء دراسات عن الصلات العائلية في بعض القطاعات التي أصبحت حِكرًا على الأبناء والأنساب والأصهار وزوجات الأبناء وأزواج البنات والأقارب، وأن يوجه بوضع معايير دقيقة وعادلة للمفاضلة بين المتقدمين للوظائف العامة للدولة، على أن تكون معايير مهنية الأولوية فيها للتفوق والكفاءة بغض النظر عن أن المتقدم ابن وزير أو ابن خفير.
والأمر الثانى الذي تطرحه هذه القضية هو من أي إطارٍ يتم سحب عينة الوزراء والمحافظين وشاغلى الوظائف التي ينبغى على من يشغلها أن يتسم إلى جوار الكفاءة بالحس السياسي في التعامل مع الجماهير ومع الإعلام، فما بالنا إذا كان بعض الوزراء والمحافظين جاء فاقدًا لمعياريّ الكفاءة والحس السياسي، وهو ما يتسببُ في حمولةٍ زائدة على رئيس الوزراء والصورة الذهنية للحكومة الحالية من جهة، ويمثل عبئًا على الرئيس السيسى يتحمل مسئوليته أمام جماهير الشعب المصرى الذي انتخبته أملًا في التغيير. سيادةَ الرئيس: نحن نطمحُ إلى تغييرٍ حقيقى بعد ثورتيْن عظيمتين كنت قائدًا لإحداهما، وهذه فترة وفرصة ذهبية للتغيير لن تواتينا بعد ذلك، ويجب أن نبدأ التغيير الحقيقى بملفيْن مهميْن هما ملف التوريث الذي فتحه وزير العدل دون أن يقصد، ولن يتم إغلاقه بأسلوب تطييب خاطر المصريين، وملف الفساد الذي أصبح غولًا أو ثقبًا أسود يهدد بابتلاعِ كلِ شىء.
سيادةَ الرئيس: يجب أن نعطى المصريين الأمل في الغد.. يجب أن نعطى أبناء العمال والفلاحين والبسطاء حقَهم في أن يحلموا بمستقبل أفضل ما دامت ذخيرتهم هي الاجتهاد والتفوق. أرجوكم لا تقتلوا الأمل لدى المصريين.. واجعلوا من الأمل جسورًا يعبر عليه أبناءهم لمستقبل أفضل في دولة حقيقية جديدة.. لأن مصر ليست وسية.