"متكتبوش اسمه على قبره ولا تنصبوش شاهد ولا تزرعوش صبار، دا «الخال ترجل»، ما تلعبوشى معاه لعبة الأشعار، وآدى الحكاية بأمانة، لما لقى شكل الوطن بيضيع، ريحة الوطن بتميع، قرر يفادى الجميع".
في آخر مكالمات جرت بينى وبينه أوصانى الخال على مصر: «لا تترك الخونة، طاردهم حتى قبورهم، لا تخش أحدًا منهم».
وعندما أهدانى ديوانه الأخير «مربعات الأبنودي»، كتب الخال في الإهداء: «إلى الرجل الشجاع، الذي كشف كذب البتاعة والبتاع، والذي يستمد شجاعته من حلم يحاول أن يقبض عليه ويجلبه لشعبه وثورته، إلى أخى عبد الرحيم على، أمده الله بشجاعة المواصلة نحو النور».
لم أنم ليلتها، كان ما بينى وبينه مشاعر الغريب والغربة، عاش وعشت في القاهرة لكننا أبدا لم ننتم إليها، كانت جذورنا تشدنا إلى حيث ولدنا وترعرعنا ولعبنا وصادقنا، إلى سنوات التكوين الأولى في مدن النخل المنسية في صعيد مصر. عندما كنا نشارك، أنا وهو، وحيد حامد الإعداد لمسلسل «الجماعة» تقابلنا في «جراند حياة»، فاجأنى الخال بالقول: «كتبت الأرض للبنات ولا لسه، لم يدر بخلدى ما كان يدور بخلد الخال، كنت أعتقد أنه يضحك معى كعادته، ولكننى فوجئت بعلامات الجدة ترتسم على وجهه: أنا باتكلم معاك بجد، الجماعة دول مش هيسيبوك، الحق اكتب كل اللى حيلتك لبناتك، مش عندك تلاتة، قلت له وعندى كمان «خالد» يا خال، ابتسم الشاعر الكبير وقال لي: لحقت تجيبلك واد.. كويس».
قبل ثلاثة أشهر قالت لى ابنتى شاهندة: عايزة أكلم الأستاذ عبد الرحمن.. قلت لها مستنكرا: مين عبد الرحمن؟ فلم أعهد أن أنطق باسمه، كنت دائما أناديه بالخال ككل أصدقائه ومريديه وعشاقه، قالت لى أقصد الخال، وعندما طلبته وأعطيتها السماعة ليتحدث معها عادت إلىّ فرحة للغاية، قال لها الخال ما كان يقوله لى ليشجعنى على الاستمرار، وظلت شاهندة تحكى لأصدقائها ما قاله لها الخال عنى حتى اليوم، فهى تعرف جيدا قيمة الخال في المجتمع المصرى والعربى كواحد من أهم شعراء العامية في مصر، وأهم حكماء عصرنا.
تعلمنا من الخال كيف نحب بلادنا من خلال إبراهيم أبو العيون، وعندما كان يسألنى أصدقائى بعد وصول الإخوان إلى السلطة: لماذا لا تهاجر؟ كنت أرد بنفس الطريقة التي رد بها عم إبراهيم أبوالعيون على الخال عندما سأله بعد هزيمة يونيو: لماذا لم تترك تلك الأرض كما هاجر الجميع يا عم إبراهيم؟ كانت إجابة الرجل التي خطها الأبنودى في ديوانه العبقرى «وجوه على الشط» تسكننى دائما: «الناس بتفر يا ولدى بعمرها وانا عمرى قدامك في الأرض دي، آخده واروح بيه فين».
كان اعتقادي، ولم يزل، هو ما علمنى إياه الخال عبد الرحمن الأبنودي، الوطن هو الديانة، والوطن من غير ما نواجههم خيانة، اصلب عودنا من قراءة شعره، وغزا الشيب رأسنا من حفظ أبياته. الخال ليس شاعرنا المحبب وفقط ولكنه الأب والصديق، مؤرخ عمرنا، وأيامنا، عرفنا من خلاله كيف تسبب تعالى الشيوعيين على الناس برغم ادعائهم القتال من أجلهم حتى فقدوا تعاطفهم، من خلال «إذا مش نازلين للناس فبلاش»، وتعرفنا على عمق هزيمة يونيو من خلال أغنيته الشهيرة التي صدح بها صوت العندليب عبد الحليم حافظ: «عدى النهار، والمغربية جاية، بتتخفى ورا ضل الشجر، وعشان نتوه في السكة، شالت من ليالينا القمر». تعرفنا على فلسفة الموت مع قصيدته الرائعة: «يامنة»، «إذا جاك الموت يا وليدى اشلح اجلح إنت الكسبان، إوعى تحسبها حساب بلا واد بلا بت، ده زمن يوم ما يصدق كداب». واهو جه الموت ونفذ الأبنودى وصية العمة يامنة حرفيا، لم يحاول كما قالت له إنه يزود يوم عن يومه، لأنه اللى يحاول يزود يوم عن يومه حمار، والأبنودى كان إنسانا، لكن مش زى إنسان هذا العصر، فلم يكن أبدا خوانا، ولا إخوان، كان يكره سيرة الإخوان كما يكره سيرة الصهاينة والأمريكان، كان بيحب الشعر والفقرا ومصر وبناته، آية ونور.
هل كان الموت هو ما هزم الأبنودى أم عراكه المستمر طوال السنوات التي تلت الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، هو ما أتعب قلبه وأسلمه للموت؟، فرح الأبنودى بالثورة وغنى لها، وإذا بالحرامية يأتون فيسرقونها منه ومنا، ليحزن الأبنودى ويبدأ معركته من جديد، «مش مكتوبلنا الراحة يا وليدي.. قال لي، أنا وانت اتخلقنا للمعارك والحزن وبس.. إنما الفرح يا خال له ناسه..» رحم الله الخال وألهمنا وألهم كل عشاقه في مصر والوطن العربى الصبر والسلوان.