4-نواصل وقفاتنا مع جذور أزمة وادى الريان، التى تفجرت مؤخراً، ونذهب معاً إلى بدايات نهضة الأديرة والرهبنة فى منتصف القرن العشرين، مع قامتين من قاماتها، كيف كانت البداية وكيف كانت المسيرة.
كانت الأديرة نسياً منسياً، تحتل مواقع بعيدة عن العمران، وكان التواصل معها يحول دونه وعورة الطرق وانعدامها فى بعض الأحيان، ورغم كنوزها اللاهوتية والأدبية، والتى تعرضت لنزح متواتر من المستشرقين، فى استغلال لبساطة قاطنيها، ولتصبح زاداً ومصدراً للتوثيق والتأريخ وتؤسس لدراسات لاهوتية تنعم بها الإنسانية، ويستمر نور المسيحية مشرقاً على العالم باتساع الجغرافيا وعلى امتداد التاريخ والزمن، إلا أن الأديرة فى هذه الحقبة لم يكن لها دور فاعل فى الخدمة الكنسية، إلا فى اختيار الأباء الأساقفة والبطاركة منها بحسب ما استقر فى الكنيسة.
لكنها تشهد تحولاً جوهرياً عندما ينتصف القرن العشرين، فيقصدها نفر من خريجى الجامعة وأن اختلفت مراميهم وتوجهاتهم، يقصدها شاب سكندرى ـ يوسف إسكندر ـ تخرج فى كلية الصيدلة وباشر عمله ترتيبا على تخصصه فى صيدليته بدمنهور، لكنه يقع فى حب الكتاب المقدس ويبحث عن مناخ يتيح له فك أسراره ليعمق صلته بمصدره، لينتهى به الأمر بعد خيارات عديدة إلى دير السريان ـ 1948 ـ طالبا للرهبنة ونعرفه فيما بعد بإسم الأب متى المسكين، وتتصاعد الأحداث فى حياته، وينطلق الأب متى المسكين 1960 ـ إلى مغائر وادى الريان التى شهدت رهبنة الأنبا مكاريوس السكندرى فى القرن الرابع الميلادى، ويمكث بها 9 سنوات ومنها يقصد دير أنبا مقار بوادى النطرون بعد مصالحة أبوية مع القديس البابا أنبا كيرلس بسعى حثيث من القمص صليب سوريال ودعم من الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير آنذاك ـ 1969 ـ
لحظتها كان دير أبو مقار يعانى من الشيخوخة، يقطنه بعض من شيوخ الرهبنة البسطاء، يحوطه الإهمال وتنهش فى أبنيته عوامل الزمن، فيشرع الأب متى المسكين ومن معه من الشباب الذين رافقوه فى رحلته هذه فى إعادة إعمار الدير العتيق، وفى تواز يواصل سعيه لكشف كنوز الكنيسة ويتواصل مع آباء الكنيسة الأولى، ويؤسس لبعث المدرسة اللاهوتية ويمد خيوطها لتتلامس مع مدرسة الأسكندرية، التى كانت قد انتقلت بعد إغلاقها إلى نفس المكان، قبل قرون.
غير بعيد ـ 1954 ـ تشهد دروب الصحراء قدوم وافد جديد من نفس الجيل شاب أخر ـ نظير جيد ـ تخرج فى كلية الآداب جامعة فؤاد الأول ـ القاهرة ـ يقصد الرهبنة بعد تجربة ثرية فى الاشتباك مع الإشكاليات الكنسية، ويقاوم اختلالاتها، ويحمل حمية القديس بطرس الرسول وغيرة رسول الأمم القديس بولس، ويترجم أفكاره على أوراق وصفحات مجلة مدارس الأحد، فى جسارة وقوة، تترامى إلى مسامعه تجربة الأب متى المسكين، فيلحقه فى دير السريان، ونعرفه فيما بعد باسم الراهب انطونيوس السريانى، ويخرج معه من الدير حين يصيبه الضجر، ويعلن أن الرهبنة اختيار ومعلم، وليست مكاناً وقيوداً ، حتى إلى دير الأنبا صموئيل المعترف، 20 يوليو 1956، ثم يعاود رحيله بالعودة منفرداً إلى دير السريان، بينما يقصد الأب متى ورفاقه مغائر وادى الريان.
كانت البدايات تنبئ بولادة كيان تنويرى بجناحى البحث والحراك على الأرض، لكن ما حملته السنين كان صادماً، وتحول التنوع إلى تحفز اخترقه شكل من أشكال الاحتراب.
وتظل الأسئلة قائمة كيف ولماذا وماذا بعد؟.
5-كان هم الإصلاح الكنسى يسيطر على ذهن الراهب الأب أنطونيوس السريانى، قداسة البابا شنودة فيما بعد ، واستقر عنده أن الطريق الوحيد لهذا لا يمكن أن يعبر بعيداً عن القيادة الكنسية، فى منظومة هرمية مركزية عتيدة، خاصة بعد فشل تجربتين حاولتا اختراق جدار الكنيسة، فى اتجاه الإصلاح، على المستوى المؤسسى، وقاد المحاولتان العلمانيون، كانت الأولى حين بادر شباب مدارس الأحد بترشيح الأستاذ حبيب جرجس لموقع مطران الجيزة ـ 1949 ـ تأسيساً على أنه خادم لا يشق له غبار تتلمذ على البابا الأنبا كيرلس الخامس، ويشغل موقع عميد الكلية الإكليريكية، وبتولاً، وتقليد الكنيسة يسمح بذلك، لكن قيادات الإكليروس تكتلوا ضد هذا الترشح، ونجحوا فى إبعاده.
كانت التجربة الثانية حين قامت جماعة الأمة القبطية بالتسلل الى الديوان البطريركى والزام البابا انبا يوساب بالتوقيع على وثيقة تنازل عن البطريركية والخروج به الى دير للراهبات بمصر القديمة ـ يوليو 54 ـ وقت ان كانت البلاد مشغولة بالإحتفال بمناسبة الذكرى الثانية لثورة يوليو، ينتهى الأمر بتدخل الدولة وإعادة البابا، ثم يتم حل جماعة الأمة القبطية فى سياق حل الجمعيات والأحزاب بجملتها.
كان الدرس المستفاد أن التغيير فى الكنيسة لا يأتى من الخارج، وأن طريقه لابد أن يعبر بالمجمع المقدس، والذى يتشكل من الأباء الرهبان حصرياً، فيكون الدير هو نقطة الإنطلاق الصحيحة باتجاه منظومة القيادة، ربما لهذا كان توجه نظير جيد للرهبنة عشية احد ايام يوليو 54، غير منقطع الصلة بتطورات الأحداث آنذاك، أو ما وقر فى ذهنه فى هذا السياق، مع التأكيد على أنه لم يكن واحدا من أعضاء جماعة الأمة القبطية بحسب تأكيد مؤسسها الدكتور إبراهيم فهمى هلال فى احد لقاءاتى معه.
مثلت رهبنة نظير جيد نقلة نوعية فى مسار الرهبنة القبطية، فقد تمكن فى سنوات قليلة أن يستحوذ على ثقة وحب اسقف الدير ـ الأنبا ثيؤفيلوس، فيسند له ادارة ومسئولية مكتبة الدير، التى تحوى مخطوطات بلا حصر وأمهات الكتب الآبائية، وتصادف عنده شغفاً بالقراءة، وتبنى تكوينه المعرفى، ويبادر ومعه بعض من شباب الرهبان، كان ابرزهم الأب متى المسكين والأب مكارى السريانى، بالترشح للكرسى البابوى الذى شغر برحيل الأنبا يوساب ـ 1956 ـ الأمر الذى اقلق قيادة الثورة وهم من نفس الجيل، وفى أغلبهم من أصول دينية متريفة، خشية أن يتواجهوا مع شباب الكنيسة، وبالتوازى لم يسترح شيوخ المطارنة للقادمين الجدد، فى سياق المصادمة الجيلية الطبيعية، واجتمعت الإرادات على الحيلولة دون وصول الشباب الى الكرسى البابوى، من خلال تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك لتصدر 1957 وضمن شروطها ألا تقل مدة الرهبنة عن 15 سنة والسن عن 40 عاما، ويخرج الشباب فى التصفيات المبكرة لعدم استيفاء الشروط الجديدة، فيسارع الراهبين مكارى وانطونيوس السريانيين بالدفع بإسم الراهب مينا المتوحد فى قائمة الترشح، بدعم من بعض الأراخنة الأقباط، ليصبح البابا كيرلس السادس، 1959، ويختار كل من الاب مكارى السريانى والأب انطونيوس السريانى ضمن طاقم سكرتاريته، ثم يقوم برسامتهما اسقفين، 1962، الأول بإسم الأنبا صموئيل اسقفاً للخدمات، والثانى بإسم الأنبا شنودة اسقفاً للتعليم.
هنا تنفتح أذهان الشباب على الرهبنة، وينفتح الطريق إلى الأديرة، يعود وهج الأديرة ليشاغل الذهنية القبطية، ويتقاطر طالبى الرهبنة من خريجى الجامعات على الأديرة، تأسياً بنموذج نظير جيد. خاصة بعد أن صار لنيافة أسقف التعليم اجتماعاً أسبوعياً بأروقة الكلية الإكليريكية، مفتوحاً لمن يرغب الحضور من غير طلبة الكلية، ويجد الناس فيه متحدثاً مختلفاً عن السائد فى أنماط العظات، التى كانت تنحى باتجاه اللغة العربية الفصحى المحتشدة بالبلاغة والشعر والمحسنات البديعية، بقدر يعوقها عن التواصل مع القاعدة العريضة من المتلقين، فإذا بهم أمام متحدث يخاطبهم بلغة بسيطة لا تفتقر للعمق، ولا تتخلى عن فصاحتها حتى ولو تلامست مع العامية، وقد اختار فى بداية اجتماعه الإسبوعى أن يطرق باب مزامير صلوات الأجبية التى تجد صدى عند المتلقى، فإذا باجتماعه ينمو بشكل متسارع لا تستوعبه قاعات الإكليريكية فينتقل الى القاعة اليوسابية فيها ثم الى الكنيسة المرقسية ثم إلى الكاتدرائية الجديدة ـ آنذاك ـ فى الدور الأسفل، وتنتهى بعد تجليسه بطريركاً فى الكنيسة الكبرى بالكاتدرائة، ويصبح أسقف التعليم نجماً فى سماء الإعلام وفى أوساط الشباب، ويتعرف المجتمع المصرى عليه عن قرب، عندما يلقى محاضرة ـ يونيو 1966 ـ فى نقابة الصحفيين بوسط العاصمة عنوانها "اسرائيل فى رأى المسيحية" ويصعد نجمه إلى عنان السماء.
ويتزايد إقبال الشباب بشكل متواتر على الرهبنة وإن تباينت الأسباب، وعندما يصعد أسقف التعليم ليجلس على الكرسى البابوى يتوالى رحيل الأباء المطارنة بحكم السن فيبادر قداسته بتقسيم ايبارشيتهم المترامية الأطراف، ورسامة اساقفة من الشباب، وتجلس مدارس الأحد معه على الكرسى بحسب تعبيره، وفى خطوة تؤكد امتلاكه لرؤية محددة فى ادارة الكنيسة بحسب تصوره، يقرر عودة المجلس الملى التى تم تجميده فى عصر البابا كيرلس، وتطرح قائمة من الموالين لقداسته وتنجح فى الوصول إلى عضوية المجلس باكتساح، وبين توسعات رسامات الأساقفة الشباب وتشكيل المجلس الملى يحكم البابا قبضته على موقعى اتخاذ القرار.
كانت المرحلة تموج بالحراك الثورى، وهاجس العدالة الإجتماعية يخايل الطبقات المطحونة والشباب المتطلع لحياة أفضل، وظهور المدارس اليسارية المنحازة للطبقة العاملة والفقراء، والتى كانت غير بعيدة عن الهوى المسيحى، وقيم المسيحية، الأمر الذى أضفى بظلاله على الإقبال المتزايد من الشباب الجامعى على الرهبنة، ولم تكن الارتباكات الإقتصادية والتحولات التى تشهدها مصر، وما استتبعها من ضغوط علىى الشباب فى فرص العمل، أو التحقق المجتمعى بعيدة عن بعض من قصدوا الرهبنة، وبرز داخل الأديرة تطور لمفهوم "عمل اليدين" النسق الذى اسسه الأنبا انطونيوس مؤسس الرهبنة فى القرن الرابع، والذى يقضى بأن يكون لكل راهب عمله فى الدير، لسببين ؛ حتى لا يصاب بالضجر لرتابة أداءات اليوم، وليكون مكتفياً، يسدد احتياجاته البسيطة والمعيشية، ثم يكلف الدير واحد أو اكثر من رهبانه بالنزول الى المدينة لبيع منتجات الرهبان، وشراء احتاجات الدير والرهبان.
كان وجود التخصصات المهنية والعلمية بشكل مكثف فى الأديرة دافعاً لتطوير "عمل اليدين" ليتحول إلى استصلاح الأراضى حول الدير، ثم مع النجاح الذى حققه هذا الاتجاه تتطور فكرة التسويق، ثم التصنيع الزراعى لتتحول الأديرة الى وحدات منتجة زراعياً صناعياً، وتتحول الى مراكز اقتصادية، وترتب تحولاً فى الأثقال الكنسية، وتبادر الكنيسة بتعميم رسامة اسقف لكل دير، لتصبح الأديرة تابعة بشكل مباشر للمجمع المقدس، ويصبح البابا البطريرك هو الرئيس الأعلى للرهبنة والأديرة، وهو الأمر الذى يغيب عن اطراف متداخلة فى أزمة وادى الريان.
ونتوقف مجدداً أمام تقييم التجربة، ماذا عن شيوخ البرية، وهل كانت الرسامات المتتالية وراء اختفائهم، ومن ثم هل نضبت فكرة التلمذة، وكيف صار الكهنوت حق ثابت ينتظره الراهب وفق قائمة انتظار بترتيب اقدمية القبول فى سلك الرهبنة، حتى صار تجاوز احدهم عند حلول دوره بمثابة عقاب، وماذا عن واجبات الراهب الروحية، وقصر اعتراف الرهبان على رئيس الدير، وتداعيات ذلك على سلام الدير ونمو القامة الروحية.
لماذا وكيف وما العلاج؟. اسئلة تحتل مكانها ولا تجد إجابات واضحة.
ومازالنا نواصل التوقف مع محطات مسيرة الأديرة والرهبنة والكنيسة عسانا نقف على تفكيك لأزمة اليوم فإلى الأسبوع القادم.
كانت الأديرة نسياً منسياً، تحتل مواقع بعيدة عن العمران، وكان التواصل معها يحول دونه وعورة الطرق وانعدامها فى بعض الأحيان، ورغم كنوزها اللاهوتية والأدبية، والتى تعرضت لنزح متواتر من المستشرقين، فى استغلال لبساطة قاطنيها، ولتصبح زاداً ومصدراً للتوثيق والتأريخ وتؤسس لدراسات لاهوتية تنعم بها الإنسانية، ويستمر نور المسيحية مشرقاً على العالم باتساع الجغرافيا وعلى امتداد التاريخ والزمن، إلا أن الأديرة فى هذه الحقبة لم يكن لها دور فاعل فى الخدمة الكنسية، إلا فى اختيار الأباء الأساقفة والبطاركة منها بحسب ما استقر فى الكنيسة.
لكنها تشهد تحولاً جوهرياً عندما ينتصف القرن العشرين، فيقصدها نفر من خريجى الجامعة وأن اختلفت مراميهم وتوجهاتهم، يقصدها شاب سكندرى ـ يوسف إسكندر ـ تخرج فى كلية الصيدلة وباشر عمله ترتيبا على تخصصه فى صيدليته بدمنهور، لكنه يقع فى حب الكتاب المقدس ويبحث عن مناخ يتيح له فك أسراره ليعمق صلته بمصدره، لينتهى به الأمر بعد خيارات عديدة إلى دير السريان ـ 1948 ـ طالبا للرهبنة ونعرفه فيما بعد بإسم الأب متى المسكين، وتتصاعد الأحداث فى حياته، وينطلق الأب متى المسكين 1960 ـ إلى مغائر وادى الريان التى شهدت رهبنة الأنبا مكاريوس السكندرى فى القرن الرابع الميلادى، ويمكث بها 9 سنوات ومنها يقصد دير أنبا مقار بوادى النطرون بعد مصالحة أبوية مع القديس البابا أنبا كيرلس بسعى حثيث من القمص صليب سوريال ودعم من الأنبا ميخائيل مطران أسيوط ورئيس الدير آنذاك ـ 1969 ـ
لحظتها كان دير أبو مقار يعانى من الشيخوخة، يقطنه بعض من شيوخ الرهبنة البسطاء، يحوطه الإهمال وتنهش فى أبنيته عوامل الزمن، فيشرع الأب متى المسكين ومن معه من الشباب الذين رافقوه فى رحلته هذه فى إعادة إعمار الدير العتيق، وفى تواز يواصل سعيه لكشف كنوز الكنيسة ويتواصل مع آباء الكنيسة الأولى، ويؤسس لبعث المدرسة اللاهوتية ويمد خيوطها لتتلامس مع مدرسة الأسكندرية، التى كانت قد انتقلت بعد إغلاقها إلى نفس المكان، قبل قرون.
غير بعيد ـ 1954 ـ تشهد دروب الصحراء قدوم وافد جديد من نفس الجيل شاب أخر ـ نظير جيد ـ تخرج فى كلية الآداب جامعة فؤاد الأول ـ القاهرة ـ يقصد الرهبنة بعد تجربة ثرية فى الاشتباك مع الإشكاليات الكنسية، ويقاوم اختلالاتها، ويحمل حمية القديس بطرس الرسول وغيرة رسول الأمم القديس بولس، ويترجم أفكاره على أوراق وصفحات مجلة مدارس الأحد، فى جسارة وقوة، تترامى إلى مسامعه تجربة الأب متى المسكين، فيلحقه فى دير السريان، ونعرفه فيما بعد باسم الراهب انطونيوس السريانى، ويخرج معه من الدير حين يصيبه الضجر، ويعلن أن الرهبنة اختيار ومعلم، وليست مكاناً وقيوداً ، حتى إلى دير الأنبا صموئيل المعترف، 20 يوليو 1956، ثم يعاود رحيله بالعودة منفرداً إلى دير السريان، بينما يقصد الأب متى ورفاقه مغائر وادى الريان.
كانت البدايات تنبئ بولادة كيان تنويرى بجناحى البحث والحراك على الأرض، لكن ما حملته السنين كان صادماً، وتحول التنوع إلى تحفز اخترقه شكل من أشكال الاحتراب.
وتظل الأسئلة قائمة كيف ولماذا وماذا بعد؟.
5-كان هم الإصلاح الكنسى يسيطر على ذهن الراهب الأب أنطونيوس السريانى، قداسة البابا شنودة فيما بعد ، واستقر عنده أن الطريق الوحيد لهذا لا يمكن أن يعبر بعيداً عن القيادة الكنسية، فى منظومة هرمية مركزية عتيدة، خاصة بعد فشل تجربتين حاولتا اختراق جدار الكنيسة، فى اتجاه الإصلاح، على المستوى المؤسسى، وقاد المحاولتان العلمانيون، كانت الأولى حين بادر شباب مدارس الأحد بترشيح الأستاذ حبيب جرجس لموقع مطران الجيزة ـ 1949 ـ تأسيساً على أنه خادم لا يشق له غبار تتلمذ على البابا الأنبا كيرلس الخامس، ويشغل موقع عميد الكلية الإكليريكية، وبتولاً، وتقليد الكنيسة يسمح بذلك، لكن قيادات الإكليروس تكتلوا ضد هذا الترشح، ونجحوا فى إبعاده.
كانت التجربة الثانية حين قامت جماعة الأمة القبطية بالتسلل الى الديوان البطريركى والزام البابا انبا يوساب بالتوقيع على وثيقة تنازل عن البطريركية والخروج به الى دير للراهبات بمصر القديمة ـ يوليو 54 ـ وقت ان كانت البلاد مشغولة بالإحتفال بمناسبة الذكرى الثانية لثورة يوليو، ينتهى الأمر بتدخل الدولة وإعادة البابا، ثم يتم حل جماعة الأمة القبطية فى سياق حل الجمعيات والأحزاب بجملتها.
كان الدرس المستفاد أن التغيير فى الكنيسة لا يأتى من الخارج، وأن طريقه لابد أن يعبر بالمجمع المقدس، والذى يتشكل من الأباء الرهبان حصرياً، فيكون الدير هو نقطة الإنطلاق الصحيحة باتجاه منظومة القيادة، ربما لهذا كان توجه نظير جيد للرهبنة عشية احد ايام يوليو 54، غير منقطع الصلة بتطورات الأحداث آنذاك، أو ما وقر فى ذهنه فى هذا السياق، مع التأكيد على أنه لم يكن واحدا من أعضاء جماعة الأمة القبطية بحسب تأكيد مؤسسها الدكتور إبراهيم فهمى هلال فى احد لقاءاتى معه.
مثلت رهبنة نظير جيد نقلة نوعية فى مسار الرهبنة القبطية، فقد تمكن فى سنوات قليلة أن يستحوذ على ثقة وحب اسقف الدير ـ الأنبا ثيؤفيلوس، فيسند له ادارة ومسئولية مكتبة الدير، التى تحوى مخطوطات بلا حصر وأمهات الكتب الآبائية، وتصادف عنده شغفاً بالقراءة، وتبنى تكوينه المعرفى، ويبادر ومعه بعض من شباب الرهبان، كان ابرزهم الأب متى المسكين والأب مكارى السريانى، بالترشح للكرسى البابوى الذى شغر برحيل الأنبا يوساب ـ 1956 ـ الأمر الذى اقلق قيادة الثورة وهم من نفس الجيل، وفى أغلبهم من أصول دينية متريفة، خشية أن يتواجهوا مع شباب الكنيسة، وبالتوازى لم يسترح شيوخ المطارنة للقادمين الجدد، فى سياق المصادمة الجيلية الطبيعية، واجتمعت الإرادات على الحيلولة دون وصول الشباب الى الكرسى البابوى، من خلال تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك لتصدر 1957 وضمن شروطها ألا تقل مدة الرهبنة عن 15 سنة والسن عن 40 عاما، ويخرج الشباب فى التصفيات المبكرة لعدم استيفاء الشروط الجديدة، فيسارع الراهبين مكارى وانطونيوس السريانيين بالدفع بإسم الراهب مينا المتوحد فى قائمة الترشح، بدعم من بعض الأراخنة الأقباط، ليصبح البابا كيرلس السادس، 1959، ويختار كل من الاب مكارى السريانى والأب انطونيوس السريانى ضمن طاقم سكرتاريته، ثم يقوم برسامتهما اسقفين، 1962، الأول بإسم الأنبا صموئيل اسقفاً للخدمات، والثانى بإسم الأنبا شنودة اسقفاً للتعليم.
هنا تنفتح أذهان الشباب على الرهبنة، وينفتح الطريق إلى الأديرة، يعود وهج الأديرة ليشاغل الذهنية القبطية، ويتقاطر طالبى الرهبنة من خريجى الجامعات على الأديرة، تأسياً بنموذج نظير جيد. خاصة بعد أن صار لنيافة أسقف التعليم اجتماعاً أسبوعياً بأروقة الكلية الإكليريكية، مفتوحاً لمن يرغب الحضور من غير طلبة الكلية، ويجد الناس فيه متحدثاً مختلفاً عن السائد فى أنماط العظات، التى كانت تنحى باتجاه اللغة العربية الفصحى المحتشدة بالبلاغة والشعر والمحسنات البديعية، بقدر يعوقها عن التواصل مع القاعدة العريضة من المتلقين، فإذا بهم أمام متحدث يخاطبهم بلغة بسيطة لا تفتقر للعمق، ولا تتخلى عن فصاحتها حتى ولو تلامست مع العامية، وقد اختار فى بداية اجتماعه الإسبوعى أن يطرق باب مزامير صلوات الأجبية التى تجد صدى عند المتلقى، فإذا باجتماعه ينمو بشكل متسارع لا تستوعبه قاعات الإكليريكية فينتقل الى القاعة اليوسابية فيها ثم الى الكنيسة المرقسية ثم إلى الكاتدرائية الجديدة ـ آنذاك ـ فى الدور الأسفل، وتنتهى بعد تجليسه بطريركاً فى الكنيسة الكبرى بالكاتدرائة، ويصبح أسقف التعليم نجماً فى سماء الإعلام وفى أوساط الشباب، ويتعرف المجتمع المصرى عليه عن قرب، عندما يلقى محاضرة ـ يونيو 1966 ـ فى نقابة الصحفيين بوسط العاصمة عنوانها "اسرائيل فى رأى المسيحية" ويصعد نجمه إلى عنان السماء.
ويتزايد إقبال الشباب بشكل متواتر على الرهبنة وإن تباينت الأسباب، وعندما يصعد أسقف التعليم ليجلس على الكرسى البابوى يتوالى رحيل الأباء المطارنة بحكم السن فيبادر قداسته بتقسيم ايبارشيتهم المترامية الأطراف، ورسامة اساقفة من الشباب، وتجلس مدارس الأحد معه على الكرسى بحسب تعبيره، وفى خطوة تؤكد امتلاكه لرؤية محددة فى ادارة الكنيسة بحسب تصوره، يقرر عودة المجلس الملى التى تم تجميده فى عصر البابا كيرلس، وتطرح قائمة من الموالين لقداسته وتنجح فى الوصول إلى عضوية المجلس باكتساح، وبين توسعات رسامات الأساقفة الشباب وتشكيل المجلس الملى يحكم البابا قبضته على موقعى اتخاذ القرار.
كانت المرحلة تموج بالحراك الثورى، وهاجس العدالة الإجتماعية يخايل الطبقات المطحونة والشباب المتطلع لحياة أفضل، وظهور المدارس اليسارية المنحازة للطبقة العاملة والفقراء، والتى كانت غير بعيدة عن الهوى المسيحى، وقيم المسيحية، الأمر الذى أضفى بظلاله على الإقبال المتزايد من الشباب الجامعى على الرهبنة، ولم تكن الارتباكات الإقتصادية والتحولات التى تشهدها مصر، وما استتبعها من ضغوط علىى الشباب فى فرص العمل، أو التحقق المجتمعى بعيدة عن بعض من قصدوا الرهبنة، وبرز داخل الأديرة تطور لمفهوم "عمل اليدين" النسق الذى اسسه الأنبا انطونيوس مؤسس الرهبنة فى القرن الرابع، والذى يقضى بأن يكون لكل راهب عمله فى الدير، لسببين ؛ حتى لا يصاب بالضجر لرتابة أداءات اليوم، وليكون مكتفياً، يسدد احتياجاته البسيطة والمعيشية، ثم يكلف الدير واحد أو اكثر من رهبانه بالنزول الى المدينة لبيع منتجات الرهبان، وشراء احتاجات الدير والرهبان.
كان وجود التخصصات المهنية والعلمية بشكل مكثف فى الأديرة دافعاً لتطوير "عمل اليدين" ليتحول إلى استصلاح الأراضى حول الدير، ثم مع النجاح الذى حققه هذا الاتجاه تتطور فكرة التسويق، ثم التصنيع الزراعى لتتحول الأديرة الى وحدات منتجة زراعياً صناعياً، وتتحول الى مراكز اقتصادية، وترتب تحولاً فى الأثقال الكنسية، وتبادر الكنيسة بتعميم رسامة اسقف لكل دير، لتصبح الأديرة تابعة بشكل مباشر للمجمع المقدس، ويصبح البابا البطريرك هو الرئيس الأعلى للرهبنة والأديرة، وهو الأمر الذى يغيب عن اطراف متداخلة فى أزمة وادى الريان.
ونتوقف مجدداً أمام تقييم التجربة، ماذا عن شيوخ البرية، وهل كانت الرسامات المتتالية وراء اختفائهم، ومن ثم هل نضبت فكرة التلمذة، وكيف صار الكهنوت حق ثابت ينتظره الراهب وفق قائمة انتظار بترتيب اقدمية القبول فى سلك الرهبنة، حتى صار تجاوز احدهم عند حلول دوره بمثابة عقاب، وماذا عن واجبات الراهب الروحية، وقصر اعتراف الرهبان على رئيس الدير، وتداعيات ذلك على سلام الدير ونمو القامة الروحية.
لماذا وكيف وما العلاج؟. اسئلة تحتل مكانها ولا تجد إجابات واضحة.
ومازالنا نواصل التوقف مع محطات مسيرة الأديرة والرهبنة والكنيسة عسانا نقف على تفكيك لأزمة اليوم فإلى الأسبوع القادم.