ماذا تريد إيران من الدول العربية، أو بالأحرى ماذا تريد إيران من مصر والسعودية؟! سؤال تمثل الإجابة عليه حل لغز ما يحدث على الساحة اليمنية بالكامل.
فقبل أكثر من أربعة عشر عامًا، وفى إطار سعى طهران للتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية حول السلاح النووي، استخدمت إيران كل الوسائل، الشرعية وغير الشرعية، للانتصار فى تلك المفاوضات. فى البداية سهلت طهران لواشنطن مهمة غزو بلدين إسلاميين هما أفغانستان والعراق، ولم تكتف بأن تفعل ذلك فى السر تماشيا مع استراتيجيتها الدائمة، ولكنها راحت تصرح به علانية أمام كافة وسائل الإعلام، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، حينما أعلن مرشدها الأعلى السيد على خامنئى أنه «لولا إيران لما استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية غزو أفغانستان أو العراق». هكذا ببساطة ودونما خجل، وفى الوقت نفسه ومنذ بدء الضربة الجوية الأمريكية على أفغانستان فى الثانى عشر من أكتوبر عام ٢٠٠١ بدأت إيران عن طريق الحرس الثوري، فى استقبال عشرات القادة من تنظيم القاعدة على أراضيها، أعدت لهم المأوى الآمن ووفرت لهم سبل الإعاشة الكاملة لاستخدامهم فيما بعد بما يخدم استراتيجية التفاوض مع واشنطن والغرب حول السلاح النووي. أرادت إيران الإمساك بالمقبضين، التعاون مع أمريكا من جهة، وشراء ولاء القاعدة، العدو اللدود لأمريكا، من جهة أخرى. استراتيجية يعجز الشيطان نفسه عن القيام بها أو فهم تركيبتها. وامتدادًا لهذه السياسة راحت إيران، عبر عناصر من طالبان وأخرى من مرتزقة الاتحاد السوفيتى السابق، تكيل الضربات لحلف الناتو والقوات الأمريكية فى أفغانستان، هذا فى الوقت الذى كانت تساوم فيه علنًا على دم الشيعة فى العراق، عبر عمليات وحشية مدفوعة الأجر، تقوم بها القاعدة بدعم من الحرس الثورى وبتوجيهات قادة القاعدة المقيمين فى إيران، والهدف كان واضحا، إخافة الشيعة ودفعهم للارتماء أكثر فى أحضان طهران، وهو ما حدث لاحقا حيث تحولت إيران إلى اللاعب الرئيسى والأساسى فى العراق، الأمر الذى أدى إلى ظهور داعش وأخواتها ردًا على سيطرة الشيعة على مقاليد السلطة فى العراق داخل وخارج الحكومة، وفى كافة الأجهزة، جيش وشرطة وأجهزة استخبارات.
سياسة الدفع إلى حافة الهاوية ثم العودة مرة أخرى للحوار عبر وسطاء، هو ما دأبت طهران على القيام به خلال أكثر من أربعة عشر عامًا، هى عمر ما أطلقت عليه واشنطن مصطلح الحرب على الإرهاب. ساحات عديدة واستراتيجية واحدة، أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا ثم اليمن، جميعها مثلت مسرح عمليات للاستراتيجية الإيرانية فى المنطقة طوال المرحلة السابقة، ولكن لم يدر بخلد أحد أن تمد إيران استراتيجيتها خارج تلك الساحات، وبالتحديد إلى مصر والسعودية مستخدمة ذات الأساليب غير الشرعية التى استخدمتها فى كل من كابل وبغداد ودمشق وبيروت وعدن.
تهدف طهران من هذه الاستراتيجية الجديدة، شغل البلدين الكبيرين صاحبى الثقل العربى والدولى والإقليمى الكبير فى المنطقة، عن كافة الملفات المهمة فى الشرق الأوسط، خاصة بعد كسر موجة ما سمى بالربيع العربي، الذى لعبت أمريكا والغرب على أوتاره لتفتيت المنطقة وإخضاعها لمخططاتهما المدعومة صهيونيًا.
الانكفاء على الداخل، وعزل الدولتين عن المحيط الدولى أو بالحد الأدنى تقزيم دورهما الإقليمى على حساب عملقة الدور الإيرانى هو ما كانت تهدف إليه الاستراتيجية الإيرانية طوال السنوات السابقة.
بالنسبة لمصر سعت إيران إلى دفعها بكل قوة لمواجهة مفتوحة مع إسرائيل عن طريق زرع بؤر إرهاب على حدودها الشرقية، ودفع الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى حافة الهاوية، الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى حرب إسرائيلية كبرى تقوم على إثرها مصر بالتدخل، لتخرج القاهرة من دائرة الفعل الإقليمى وتخلى الساحة لطهران إلى الأبد، وعندما لم تنجح طهران سواء عبر نداءات رجلها حسن نصر الله للشعب المصرى والجيش المصرى بالخروج عن أمر قياداته وكسر الحدود مع غزة وضرب إسرائيل، حاولت اللعب من خلال حركة حماس وحركاتها الصبيانية المفضوحة الهادفة إلى دفع إسرائيل للقيام بعملية اجتياح موسعة للقطاع تدفع بعشرات الآلاف من الفلسطينيين للدخول إلى سيناء من خلال مطاردة إسرائيلية تتدخل على إثرها مصر عسكريًا ليبدأ الصراع المسلح بين البلدين.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية لعبت إيران معها مباراة كبيرة، بدءا من تفجيرات الخبر التى تم توجيهها من قلب إيران، وفتحت عصر إرهاب فى السعودية، وحتى توفير المأوى والملجأ الآمن لكافة عناصر القاعدة الكبرى مقابل عمليات داخل السعودية، وانتهاء بدعم الحوثيين ودفعهم للتواجد المزعج على الحدود الجنوبية، لتحقيق الأهداف الإيرانية فى التوقيت الذى ترغب فيه إيران، وهو ما حدث فى الفترة الأخيرة، ولكنه امتد أيضا ليشمل السيطرة على باب المندب، لخنق مصر أيضا. بالطبع سيخرج علينا من أبناء جلدتنا من يعيب علينا هذا التحليل، المبنى على معلومات واضحة ودقيقة، وسيتناسون أنهم نفس الأصوات التى عابت علينا من قبل الربط بين تنظيم القاعدة وإيران بحجة الخلاف المذهبي بين إيران الشيعية، صاحبة نظرية ولاية الفقيه، والقاعدة السنية صاحبة نظرية الخلافة الإسلامية، لم يفكر هؤلاء للحظة ولم يدر بخلدهم آنذاك، كما سيفعلون اليوم وغدا، أن السياسة تختلف عن المذاهب، وأن إيران لا تعرف غير مصالحها السياسية والاستراتيجية وأنها ستسعى بكل ما أوتيت من قوة لتحقيقها ولو أدى هذا إلى التخطيط للضرب فى العمق المصرى والسعودي، بدعوى أن الدولتين تشكلان عائقا أمام الطموحات الإيرانية لتزعم المنطقة، ودخول النادى النووي. وحتى عندما تكشفت تلك العلاقة
بشكل جلي، للقاصى والدانى، رفض بعضهم الاعتراف بها، وتحدث آخرون عنها كبديهيات، دون خجل أو وجل أو اعتذار.
وأخيرا فإن المواجهة الإيرانية الخشنة مع البلدين، واستخدام حزب الله فى لبنان، والحوثيين فى اليمن، وشيعة الخليج، ربما فيما بعد، لن ينفع إيران بشيء، بل على العكس سيزيد من عمق أزمتها، وسيوسع من دائرة المواجهة معها، والأيام القادمة حبلى ربما بما لم تكن تتوقعه طهران ولا عملاؤها فى المنطقة.