الأربعاء 23 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

محمود سعيد.. قاضي الألوان

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إعداد: أحمد صوان
إشراف: سامح قاسم

في ذكرى مولده الثامنة عشرة بعد المائة، والواحدة والخمسين لوفاته، يستعد أحد المعارض الفنية بالقاهرة لعمل معرض استيعادي لأعمال الفنان التشكيلي الكبير محمود سعيد، الذي لم يمنعه سلك القانون من الاهتمام بمواهبه الفنية، ففرضت أعماله مكانها المُميز وسط أعمال الفنانين العالميين، فسعيد الذي عمل قاضيًا، كان يحيا في عالم من الألوان والتفاصيل المُبهرة التي جسّدت واقعه واهتمت بتفاصيل قوية كانت تُجدد نفسها طوال حياته، فاستمرت أعماله في الخلود، لتُباع لوحته "الدراويش" كأغلى لوحة في الشرق الأوسط لفنان مُعاصر.
ولد محمود سعيد في الإسكندرية بحي الجمرك، رأس التين، بالقرب من مسجد المرسي أبو العباس في 8 أبريل عام 1897، لأسرة ثرية مثقفة ذات مكانة اجتماعية، ما كان له تأثير كبير في تشكيل شخصيته، وكان والده محمد سعيد باشا رئيس وزراء مصر في عهد الخديو عباس حلمي الثاني في السنوات الأربع التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وعاد لفترة ثانية خلال عام 1919، في الفترة من 20 مايو وحتى 20 نوفمبر، وقدّم استقالته احتجاجًا على إرسال لجنة ملنر إلى مصر.
وقد كان لانتماء محمد سعيد باشا لأسرة تعمل بالقانون أبلغ الأثر في توجيه الابن محمود إلى أن ينتهج نهجه، فاتجه إلى دراسة القانون، مع الاعتبار أن موهبته الفنية قد ظهرت في سن مبكرة، ويرجع ذلك إلى اهتمام الأسرة بالفنون والآداب، وحرصها على تنمية موهبة ابنها، بعد أن عهدت به إلى فنانة إيطالية لقنته دروسًا في الفن داخل المنزل، وعندما تخصص في دراسة الحقوق بجامعة القاهرة، ذهب لصقل موهبته الفنية ودراسة الفنون في بعض المراسم الخاصة قبل السفر إلى العاصمة الفرنسية التي كانت القمة في سماء الفن والثقافة.
حصل سعيد على ليسانس الحقوق عام 1919، ثُم سافر إلى باريس لاستكمال الدراسات العُليا للقانون، وهناك كان لقاؤه بالفنون الأوربية التي عشقها، حيث التحق بالقسم الحر بأكاديمية جراند شومبير لمدة عام، ثم أكاديمية جوليان، وكان عاشقًا لمُتابعة التجارب الفنية التشكيلية للمعروفين من رواد هذا الفن، بجانب متابعة أعمال المعاصرين منهم، بجانب مُشاهداته للمُقتنيات الفنية في متاحف باريس ومعارضها، والقراءة حول تاريخ الفن في كُلّ من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا.
يُعّد سعيد واحدًا من أوائل الرواد في الفن المصري الحديث، وكذلك واحدًا من أهم وأبرز فناني الحركة التشكيلية المصرية الحديثة، وظهر ذلك في امتلاكه للتقنيات الفنية، والعناصر المرسومة، وتوزيع الضوء والظلال والحركة في لوحاته، ومن أشهر لوحاته التي اتسمت بالتفرد والعذوبة والحيوية لوحة بنات بحري، والتي تُجسّد فتيات رأس التين المعروف باسم حي الجمرك، وأيضًا حي بحري، وقد رسمهن في ردائهن بالملاءة اللف السكندرية ومشية شعبية أخّاذة تبرز دلالهن وجمالهن، وكذلك لوحة فتاة مصرية على رأسها منديل وهي تصّور واحدة من بنات مصر بزّيها الشعبي، وقد غطت رأسها ذا الشعر الأسود بمنديل أزرق تزينه خيوط صفراء، بينما كشف عن جزء من صدرها بما يوحي بحيويتها وصغر سنها وشبابها، وابتسامة من شفتين عريضتين مكتظتين، وعينين عسليتين تنظران في تأمل، فقصد بذلك أن نصف الأنوثة عند الفتيات المصريات، حيث كان من سماته الفنية حرصه على إظهار المرأة المصرية ذات خصوبة وحيوية وجمال طبيعي.
ومن أشهر لوحات سعيد كذلك مراكب الصيادين ذات الأشرعة على نهر النيل، ولوحته للمصلين وقد ظهروا راكعين في خشوع وهم يلبسون عمائمهم وعباءاتهم بما يوحي بجو السكينة والخشوع، وأيضًا لوحة الدراويش، التي رسمها عام 1935، والتي حققت أعلى مُقابل مادي للوحة في المنطقة العربية، وبيعت عن طريق صالة مزادات كريستيز العالمية بمبلغ 2، 434 مليون دولار، وتُعّد بذلك أغلى لوحة رسمها فنان في الشرق الأوسط في العصر الحديث، وتُجسّد المتصوفين الذين لبسوا طرابيشهم وثيابهم الفضفاضة، وظهروا وهم يمارسون واحدة من طقوسهم وهي الدوران حول أنفسهم في ساحة المسجد.
ومن الطرائف التي صاحبت رسمه لإحدى لوحاته الشهيرة باسم بائع العرقسوس أنه برغم انتقاله للسكن بالقاهرة ووجود مسكن آخر له بحي جناكليس بالإسكندرية إلا أنه كان يحن لمسقط رأسه بالحي الشعبي بحري بالقرب من مسجد المرسي أبي العباس، وكان يجلس على أحد المقاهي الشعبية فإذا به يعجب ببائع العرقسوس، وسرعان ما طلبه واتفق معه على أن يرسمه بحالته كبائع عرقسوس، وقد تم ذلك على مدى ثلاث جلسات فنية تمت بمحطة الرمل بالإسكندرية.
نجحت أعمال سعيد الفنية بالفعل في التأثير الفني في المتلقي، والصدق الملموس في ألوانه وظلاله، وزاوية الرؤية في لوحاته، وهو ما نتج عن تكوين شخصيته بعدة مرجعيات شكلّت داخله هندسة بنائية مُتميزة، حيث تأثر بفن التصوير الفرعوني، والقواعد الكلاسيكية للفنون الأوربية في عصر النهضة، هذا إلى جانب تأثره بدراسة القانون، والتي أكسبته الالتزام والنظام والدِّقة، وتتجلى هذه الحقيقة في أعماله الفنية التي توالت منذ منتصف العشرينيات وحتى أواخر الثلاثينيات، مُوظّفِة الأساليب الغربية في نطاق خاص، بعيدًاعن الذات الفردية والقومية.
وتغيرت أعمال سعيد لتبرز مراحل جديدة، ففي مرحلة الأربعينيات اتجه سعيد لرسم البورتريه، أو الصورة الشخصية، ومن خلالها اهتم بإبراز العُمق النفسي للشخصية، ثُم اتجه في الخمسينيات إلى رسم المناظر الطبيعية والمعالم السياحية، بما يوحي بالهدوء وترك المشاعر المتأججة والاتجاه إلى الطبيعة بأضوائها الهادئة الآمنة، وقد أخرج فيها عدة لوحات تُشبه إبداعات الفنانين العالميين، منهم الفنان الإسباني جويا، وقد جاءت هذه المرحلة الأخيرة بعد أن اعتزل في آخر حياته الحياة العامة، وكان ذلك بعد أن فرغ من العمل في القضاء الذي تدرج في وظائفه، إلى أن أصبح مُستشارًا قانونيًا.
حرص محمود سعيد على إقامة المعارض الفنية، وتنوع أماكنها بُغْية إشهار أعماله، وعرضها على أكبر عدد من الجمهور المُهتم بالفن التشكيلي، والمُشاركة في الحياة الفنية المحلية والعالمية، فأقام معرضين لأعماله في نيويورك عام 1937، معرض في أتيليه الإسكندرية عام 1943، معرض بجمعية الصداقة المصرية الفرنسية بالإسكندرية عام 1945، أقام معرض بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1960 ضم مائة وعشرين لوحة من لوحاته، وكذلك شارك عام 1953 في معرض الربيع، والذي أُقيم في القاهرة، مع نخبة من الفنانين التشكيليين، وفي أعقاب وفاته أقُيم معرض شامل للوحاته بمتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية ضم مائة وسبعة وثلاثين لوحة.
شارك سعيد كذلك في كثير من المعارض الجماعية الدولية، منها معرض باريس الدولي عام 1937، بينيالي فينسيا الدولي ثلاث مرات، معرض اليونسكو للفنانين العرب في بيروت عام 1953، والمعرض الفن المصري بالخرطوم عام 1953، المعرض المصري بموسكو في عام 1958.
تم تكريم محمود سعيد على أكثر من مستوى، فنال ميدالية الشرف الذهبية في معرض باريس الدولي عام 1937 عن الجناح المصري، ثم منحته فرنسا وسام اللجيون دوبنر عام 1951، وفي عام 1960 كان أول فنان تشكيلي يحصل على جائزة الدولة التقديرية للفنون وتسلمها من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
توفّيَ محمود سعيد في نفس اليوم الذي ولد فيه 8 إبريل عام 1964، بعد أن تَبَّرع بقصره الواقع في شارع محمد سعيد باشا، والمُسمّى باسم والده، في حي جناكليس بالإسكندرية إلى وزارة الثقافة التي خصصته قصرًا ثقافيًا يضم مجموعة من المتاحف الفنية ومنها متحف سيف وأدهم وانلي، ليُطلق عليه مركز محمود سعيد للمتاحف بالإسكندرية".