كثر الكلام هذه الأيام، وعلت نبرته حول ما يطلق عليه «المصالحة» مع الجماعة الإرهابية المسماة بالإخوان، وزفت إلينا بعض الصحف البشرى عبر استعراضها لمعلومات تتحدث عن لقاءات تتم هنا وهناك ووساطات هنا وهناك، والحقيقة، ورغم علمنا بأن هذه المعلومات هي تكرار لما يحدث طوال العامين الأخيرين، لا يعدو كونه حرثًا في الماء، لأن الشعب المصرى حسم خياره، ووضع الجماعة في نصابها الطبيعى كجماعة إرهابية لا مكان لها سياسيًا على أرض مصر المحروسة. إلا أننا يجب أن نوضح ما قلناه وأكدناه من قبل، عشرات المرات، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
لقد بنى التنظيم الإرهابى خطته، منذ اللحظة الأولى، لحظة سقوط نظامهم، على هذا الخيار، خيار المصالحة واقتسام السلطة، وكل الضغوط التي كانوا يمارسونها عبر إرهابهم للدولة والمجتمع، كانت تبدأ وتنتهى في خدمة ذلك الغرض، تركيع المجتمع والدولة للقبول بالمصالحة.
ولم تتوقف المحاولات، داخليًا كانت أم خارجيًا، لدعم هذا المشروع، فداخليًا طرح طارق البشرى وسليم العوا وفهمى هويدى، وعدد لا بأس به من حوارى قطر وتركيا والتنظيم الإرهابى مشاريع مصالحة متعددة، ودوليًا طرحت أكثر من دولة وتحدث أكثر من مسئول مع الحكومة المصرية حول ذلك الملف، ومُورست ضغوط ضخمة على الحكومة، وعدد من الدول العربية للدفع بذلك الاتجاه كان آخرها ما حمله الرئيس الأمريكى باراك أوباما أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية، يوم ٢٧ يناير الماضى لتقديم واجب العزاء في الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، أوباما لم يكن معنيًا بتقديم واجب العزاء، حقيقة، بقدر عنايته بتوصيل رسالة واضحة للقيادة السعودية الجديدة حول رؤية واشنطن لما يحدث في مصر.
أشار أوباما بوضوح، متحدثًا عن تجربة الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٢ وما أفرزته، من وصول لرئيس إخوانى إلى سدة السلطة في مصر، ثم عرج على المعالجات التي تمت عقب تلك الانتخابات، معتبرًا إياها نوعًا من الإقصاء لقوى سياسية بعينها، في إشارة للإخوان، بشكل غير ديمقراطى. الغريب أن أوباما تجاهل ـ بشكل متعمد ـ ثورة الشعب المصرى في ٣٠ يونيو، وما حدث طوال عام كامل من حكم الجماعة الإرهابية، مبديًا تحفظ الإدارة الأمريكية على ما جرى في الثالث من يوليو ٢٠١٣، مبديًا اعتراضه على الإعلان التاريخى الذي أنهى حقبة حكم الإخوان، ورسم خريطة طريق جديدة ارتضاها الشعب المصرى، كنتيجة منطقية لثورة يونيو المجيدة.
ديمقراطية واشنطن
قال أوباما مخاطبًا القيادة السعودية الجديدة، إنه مهما كانت نتائج الديمقراطية، في إشارة أخرى لانتخابات ٢٠١٢، فإنه لا بد من احترامها فهى مفتاح حل كل الأزمات، وأضاف: «كان على المصريين أن يسلكوا طريق النضال الديمقراطى من أجل تصويب مسيرة الإخوان المسلمين أو إقصائهم. ولكن ما حصل في مصر شجع قاعدة عريضة من الشعب المصرى أو من غيره لدعم الإرهاب المتطرف كما شكلّ له بيئة حاضنة».
خرج أوباما بنتيجة منطقية لرؤية الإدارة الأمريكية تلك، تتلخص في ضرورة فتح حوار مصري ـ مصرى، للخروج من هذا المأزق. الغريب أن دعوات أوباما تلتها أصوات عديدة، كانت الإدارة الأمريكية قد اتصلت بهم سرًا في الفترة الأخيرة، في القاهرة وغيرها من عواصم الدول العربية، تتحدث بنفس اللهجة حول المصالحة المزعومة، متجاهلة ـ مثل أوباما وإدارته ـ الدماء التي سالت ولم تزل على طول البلاد وعرضها، من قبل العمليات الإرهابية التي قام بها التنظيم الإرهابى وحلفاؤه.
طلب أوباما من الجانب السعودى بشكل واضح، أن يساعدوا الجهد الأمريكى، في هذا الشأن، محذرًا من انزلاق دول الخليج ـ على حد تعبيره ـ في معادلات تقديم الدعم لطرف والمجابهة مع طرف آخر، مطالبًا الإدارة الجديدة، متمثلة في الملك سلمان بن عبد العزيز، بأن يكونوا توفيقيين وداعمين لحوار وطنى في مصر، يؤدى إلى تسوية مقبولة للجميع، مشددًا على أن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يساهم في التصدى للإسلام السياسي الإرهابى والمتطرف.
لم يعلق أحد من الحاضرين، على ما قاله أوباما، مما جعل الجانب الأمريكى يفسر هذا الصمت، بأن السعوديين يتفقون مع وجهة النظر التي طرحها الرئيس الأمريكى.
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن البعض ممن تبنوا هذا التفسير استندوا لمحادثات سابقة، كان قد أجراها الأمير محمد بن نايف ولى العهد الحالى، عندما كان وزيرًا للداخلية، أثناء زيارته لواشنطن يوم ١٢ ديسمبر ٢٠١٤ حيث أوضح الأمير محمد، رفض تدخل السعودية بأى من الساحات المتوترة سواء في (سوريا، العراق، اليمن، مصر)، كان وزير الداخلية السعودى، الذي انفرد بلقاء أوباما يومها ولمدة ثلاث ساعات كاملة، ينطلق من فلسفة أمنية، تقول بأن السعودية عندها ما يكفيها من المجموعات الإرهابية، وأن حربها على الإرهاب يجب أن تقتصر على ساحتها الداخلية، دون أن تعطى أي مبرر للتنظيمات الإرهابية، للرد عليها من خلال محاربة السعودية لها في ساحات خارجية.
كان الموقف الأمريكى فيما يتعلق بمصر واضحًا، وهو وقف دعم السعودية للنظام المصرى، وأن تدعم المملكة موقف واشنطن الساعى لإيجاد تسوية داخلية في مصر يعود الإخوان من خلالها إلى المشهد السياسي المصرى.
ذلك كان هو الهدف الرئيسى من زيارة أوباما للرياض، سد الطريق على أي انتصار للإرادة المصرية، ضد المخطط الأمريكى الغربى، الهادف إلى تقسيم المنطقة، المخطط الذي تعلمه الإدارة السعودية الجديدة قبل القديمة، وتعلمه دول الخليج قبل القاهرة.
لقد سربت مصادر أمريكية، لقطر وتركيا، بأن هناك تغييرًا ما في الموقف السعودى بشأن ما يجرى في مصر، حيث بدأت التحليلات تتوالى بأن السعودية قد غيّرت سياستها تجاه مصر، وأن القيادة السعودية الجديدة قد تراجعت عن دعمها لنظام الرئيس السيسى بصورة كبيرة.
والتقط الطعم، إعلاميون مصريون وعرب، كبار للأسف، دون أن يمحصوا تلك المعلومات، ويدرسوا جهة إطلاقها. أقلقت هذه التسريبات، بالطبع، القيادة السياسية في مصر، نوعًا ما، وعلى أثر ذلك وبعد مغادرة أوباما المنطقة وصل إلى الرياض كل من سامح شكرى وزير الخارجية المصرى، وخالد فوزى رئيس جهاز المخابرات العامة، في زيارة خاطفة، للاطلاع على فحوى زيارة الرئيس أوباما للسعودية ونتائجها.
أبلغ السعوديون المصريين بأنه لا تغيير مطلقًا قد طرأ على الموقف السعودى بشأن دعم النظام المصرى، و«أنّ موقفنا كان واضحًا وصريحًا، وهو أننا ندعم ونساند كل ما يقبل به المصريون، وأنه لا يمكن لنا أن نكون طرفًا بأن نتبنى موقفًا ترفضه القيادة المصرية».
عاد الوفد المصرى مسرورًا بهذا الموقف السعودى الداعم للقيادة المصرية، لكنه لم يخف تخوفه من أمرين:
■ أن يستمر الأمريكان في محاولاتهم إقناع السعوديين بفكرة الحوار الداخلى في مصر بين الحكومة والإخوان.
■ وأن يستمر الأمريكان في المراهنة على دور أساسى ومهم للجماعة الإرهابية في المنطقة.
بعد عودة الوفد المصرى، نشطت الدبلوماسية المصرية على جميع المستويات خاصة الخليجية (الإمارات، الكويت، والبحرين) لتوضيح موقفها الرافض لأى مصالحة مع الإرهابيين القتلة.
وردت الولايات المتحدة بشكل سافر، عندما استقبلت وفد الإخوان في وزارة الخارجية الأمريكية في الفترة من ٢٥-٢٩ يناير، والذي كان بمثابة رسالة للجميع، بأن جماعة الإخوان ما زالت خيارًا أساسيًا لدى الأمريكان، وأن وجودهم كجزء من المشهد السياسي المصرى، هو خيار ثابت لواشنطن، بغض النظر عن رفض المصريين حكومة وشعبًا.
أفهم أن يكون هذا هو الموقف الأمريكى، وأفهم أن يقاتل الأمريكان في سبيل تنفيذ أجندتهم التي لخبطتها ثورة الشعب المصرى في ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لكن لا أفهم الترديد الأعمى من قبل كتاب ومفكرين لفكرة المصالحة، والترويج لمعلومات حولها وكأنها باتت خيارًا لا مفر منه.
بالونة اختبار
إن ما نشر وينشر، لا يعدو كونه بالونة اختبار، ليتعرف البعض كيف يستقبل الناس في مصرنا المحروسة تلك الفكرة، ولكن السؤال هو: كيف يقبل رجل في مصر، وأنا هنا أخاطب الرجال بالمعنى لا بالجنس، ففى مصر نساء كالرجال وأكثر في احترام قيمة الوطن. أقول: كيف يقبل رجل أن يصافح أحدًا من الجماعة الإرهابية ولا يبصر الدم في كل كف، كيف يصدق مقولات من قبيل جئناك كى تحقن الدم، جئناك يا أمير الحكم..ها نحن أبناء عم..ولا يقول لهم..إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك؟
إن أحدًا من هؤلاء الذين يرددون هذا الكلام في هذا التوقيت، لا يبصرون قوافل الشهداء من جنود وضباط الجيش والشرطة الذين تقتلهم الجماعة الإرهابية بدم بارد، ولا يسمعون صوت الشهيد وهو يردد: كنت أغفر لو أننى مت ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ، لم أكن غازيًا، لم أكن أتسلل قرب مضاربهم، لم أمد يدًا لثمار الكروم، أرض بستانهم لم أطأ، لم يصح قاتلى بى انتبه، كان يمشى معى، ثم صافحنى، لكنه في الغصون اختبأ.. فجأة ثقبتنى قشعريرة بين ضلعين واهتز قلبى كفقاعة وانفثأ!
لم يسمعوا كلمات الشهيد محمد مبروك التي أتخيل أنه يتلوها علينا قبيل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: الذي اغتالنى ليس أنبل منى، ليقتلنى بسكينته، ليس أمهر منى ليقتلنى باستدارته الماكرة، لا تصالح، فما الصلح إلا معاهدة بين ندين، في شرف القلب لا تنتقض، الذي اغتالنى محض لص، سرق الأرض من بين عينى، والصمت يطلق ضحكته الساخرة.
إنه الغدر، في كرداسة، في الفرافرة، في سيناء، في الفيوم، في المنيا، في أسيوط، في الأقصر في ليبيا..عمليات إرهابية عديدة راح ضحيتها العشرات من أبنائنا من الجيش والشرطة.. من يملك المساومة على دمائهم ولا يسمع صوت أبنائهم، وهم يصرخون عندما تأتى سيرة المصالحة.
أريد أبى لا مزيد..أريد أبى عند بوابة البيت منتصبًا من جديد..ولا أطلب المستحيل.. إنه العدل.
نعم عندما تذهبون إلى المصالحة مع مصاصى الدماء، يجب أن تعيدوا لهؤلاء اليتامى آباءهم، لهؤلاء النسوة اللابسات الحداد أزواجهم، لهؤلاء الأمهات والآباء الذين فقدوا أبصارهم حزنًا وكمدًا على أبنائهم، نور أبصارهم.
يجب أن نسأل أنفسنا قبل أن تلوك ألسنتنا حديث المصالحة، هل تتحول دماء هؤلاء الشهداء بين عيوننا، في لحظة من لحظات ضعفنا، ماءً؟
هذا هو السؤال الذي سيظل يطاردنا في نومنا، وفى صحونا إلى أن يجد إجابة شافية.
وربما يتساءل البعض: ألم يقتل منهم رجال ونساء أيضًا، ويرد عليهم شهداؤنا: لا تصالح على الدم حتى بدم، لا تصالح ولو قيل رأس برأس.. أكل الرءوس سواء.. وهل تتساوى يد..سيفها كان لك.. بيد سيفها أثكلك.. لا تصالح ولا تتوخى الهرب.
أعرف أن لا أحد يستطيع في مصر أن يقول بالمصالحة، سوى أشباه الرجال وعملاء الجماعة الإرهابية، والذين أبوا إلا أن يدوروا في فلك واشنطن وحلفائها من الأتراك والقطريين، هؤلاء الذين يستعدون الآن عبر ماراثون من الاجتماعات المكثفة لشراء البرلمان القادم، مهما كان الثمن؟ مستغلين خطأ استراتيجيًا ارتكبه المشرع للدستور عندما وضع مادة تقتسم السلطة بين البرلمان والرئيس في توقيت تتعرض فيه البلاد لأكبر مؤامرة في تاريخها تستهدف تقسيمها وتفتيت جيشها، وهو ما يلقى علينا أعباءً كبيرة في هذه اللحظة، لاختيار برلمان وطنى لا قدم فيه لعملاء أمريكا وحلفائها من رجال الطابور الخامس، الذين يسعون بيننا تارة بالمصالحة وتارة أخرى بالحديث عن ديمقراطية الإفراج عن الجواسيس والخونة وبائعى الأوطان.
لا شىء يكسرنا، أعلم، لكن الحرص واجب، والحيطة مطلوبة، وفضح المتخاذلين الذين ينخرون في عظام هذا البلد هو التحدى الأكبر.
إن الحمام المطوق لا يقدم بيضته للثعابين.. حتى يسود السلام..فمن يطالبنى أن أقدم رأس أخى ثمنًا لتمر القوافل آمنة..وتبيع بسوق دمشق حريرًا من الهند..وأسلحة من بخارى..وتبتاع من بيت جالا العبيد!
إنها الحرب، أعرف، قد تثقل القلب، لكن ما بيدنا حيلة، فأبناؤنا يقتلون ويخطفون ويذبحون، ونحن لا هم لنا إلا ترديد أحاديث ورؤى الغرب وواشنطن حول المصالحة، الحل في إعلان الحرب على الإرهابيين، هذا ما نعرفه، الحرب بكل ما تعنيه الكلمة من تجهيزات وتعبئة وإعلان للطوارئ والسماح للضباط والجنود بمواجهة الحالة كما ينبغى، بالضرب في المليان.
إن الأيادى المرتعشة، يا سادة، لا تبنى الأوطان، هكذا أثبتت الأيام، فالإرهاب يعيش عكسيًا مع الطريقة التي تتم مواجهته بها، فإذا كانت قوية ضعف، وإذا كانت ضعيفة استقوى علينا.
معادلة بسيطة، أثبتت صحتها عبر كل العصور، من عهد الملك فاروق وحكوماته وحتى الرئيس الأسبق مبارك، مرورًا بالرئيسين عبد الناصر والسادات.
المعركة مع الإرهاب ليست معركة حربية تقليدية، خاسر من يعتبرها أو يخوضها بهذا المفهوم، أو بأدوات مثل تلك التي تستخدم في تلك الحروب، كالطائرات ومدافع الهاون، والدبابات، حرب الإرهاب تقوم على الإيمان بعدالة قضيتنا وعدم مساومتنا على دماء الشهداء، والإصرار على المضى في طريقنا الذي اخترناه إلى آخر مدى.
ليست البندقية ولا حجم النيران، هما من يحددان إطار المعركة، ولكن الإيمان هو ما يحددها وحجم قناعاتنا بعدالة قضيتنا، وحجم وعينا بالخطر المفروض علينا، وقدرتنا على التوحد في مواجهته جيشًا وشعبًا وشرطة ورئيسًا.
ونختم بالشعر:
لا تصالح ولو قلدوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى!
آراء حرة
لا تُصالح
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق