الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عندما يكون الكفاح والعمل عنوانًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الصورة الذهنية التى تشكلت عندى لأبى كانت تتغير مع كل مرحلة من مراحل حياتى، العجيب أننى عرفته أكثر بعد رحيله، كانت الصورة الغالبة الحزم والجدية، هل لأنى كنت الأصغر بين اخوتى، تصغرنى اختى "سهير" بسنوات خمس، هل لأنه كان رجلاً عصامياً لم يعرف ترف حياة المدينة وقد نزح من بلدته أو قل للدقة قريته الكائنة بحضن الجبل فى اخر نقطة بمحافظة اسيوط "الغنايم" بينما العالم يواجه شبح الكساد الإقتصادى العنيف فى ثلاثينيات القرن المنصرم، يتقاسم وإخوته بضع "قراريط" من ارض زراعية خلفها لهم والدهم البسيط، بينما كانت زوجته، إبنة خاله "صراف" البلد، المنتمى للفرع الموسر من العائلة الممتدة والمتشابكة "آل شوفة"؟.
"ياواد يابلبل ياولد" هذا نداء والدى كنت اسمعه وأنا فى الشارع لأجد نفسى فى ثوان جالساً أمام المكتب الصغير بغرفتى، فالبديل علقة ساخنة، لو اكتشف أننى تسللت خارجاً لغير سبب مقبول، وبلبل هذا هو أنا، الإسم الذى فرضته أختى "نادية" بعد ان اعترضت على اسمى فى شهادة الميلاد والذى اختاره لى أخى الأكبر الدكتور أيوب، على اسم أحد اصدقاءه بمدرسة التوفيقية بشبرا.
استطاع أن يجد لقدمه موقعاً بالقاهرة التى لا يعرف فيها أحداً، فى حى روض الفرج، لينتقل منها الى القللى، أحد احياء منطقة الأزبكية التى شهدت حراكاً شعبياً ثورياً دعم وبقوة ثورة 19، وبها كنيسة مارجرجس التى أسسها خطيب الثورة القمص سرجيوس، وكانت الى وقت غير بعيد تعرف بإسمه، كان اخيار القللى ليكون قريباً من محطة مصر حتى لا يتوه عنه أقاربه، القادمون من الصعيد، يتقلب فى التجارة البسيطة التى تنمو حثيثاً بصبر ودأب، حتى يستقر بتجارته فى منطقة وكالة البلح.
يحكى أن نجاحه يرجع الى مساندة المرأة الحكيمة التى شاركته مشوار حياته، أمى، بين قروشه القليلة وجنيهاته فى مراحل تالية، كانت تدبر حياة الأسرة بغير تبرم أو شكوى، عاوزة حاجة يام ايوب؟، لا .. الحمد لله خير ربنا كتير، حمداه وشكراه.
تجرى فى نهر الحياة مياه كثيرة، هادئة وهادرة، لكنها تبقى متماسكة، وفى السنة التى جئت فيها إلى الحياة، 1949، يشترى منزل قديم ويستخرج له قرار ازالة، ويشرع فى بناء منزل جديد، لم يكن البناء كما هو اليوم، بل كان يتم على مراحل، كلما توفر ما يلزم من مال، كان التجار حريصون على هذا النسق من الحياة، فإيراد العمارة، هو البديل للمعاش، وتأمين حياة الأسرة، وكان المجتمع بهذا لا يعانى من أزمة سكن، فالتجار يبنون والمحتاجون للسكن يقصدونهم، ولافتة "شقة للإيجار" تتناثر فى شوارع الحى، ويدور بينهما حوار حول قيمة الإيجار، حتى يتفقا معاً وكان الحوار ينتهى لصالح الساكن، بل وكثيراً ما يبادر صاحب العقار باطلاق البخور فى الشقة التى تبقى بلا طلب، حتى تطرد العين التى اصابتها ويأتى الفرج، والشقة فى كل الأحوال تسليم مفتاح، ويقوم المالك بإعادة دهان حوائطها ومراجعة مرافقها، ونوافذها وأبوابها، وضبط وإصلاح ما يحتاج منها، كعروس تنتظر عريسها. حتى يعجل بتأجيرها، لصاحب العصمة الساكن.
كان التوازن الإجتماعى عنوان تلك السنوات، وكان كل حى من احياء العاصمة متجانس، والتدرج يتم بسلاسة، حتى انك تستطيع ان تتعرف بسهولة على طبيعة الحى، البسيط والمتوسط والغنى، لكنك فى كل الأحوال تلمس الروح المصرية فى ايهم، وعندما ينتقل المرء وأسرته من حى الى آخر يلتزم بطبيعة الحى الجديد، فكان التدرج المالى والتدرج الاجتماعى متلازمان، بلا طفرة أو اقتحام، وانعكس هذا على السلام الإجتماعى.
كان خط سير السكن يبدأ من الأحياء الشعبية، ثم ينتقل مع زيادة الدخل إلى الأحياء المتوسطة، ثم الى الأحياء الأرستقراطية، وتظل الدائرة فى حراكها، ليحل محلهم سكان جدد، هكذا تحتفظ بعاداتها وتقاليها واندماجها. كان ابرزها شبرا، الفجالة، مصر الجديدة، أو الزمالك، قبل ان تضربنا تاسونامى الإنقلابات الإجتماعية فى السبعينيات وما تلاها. 
كانت أمى تستوقف والدى قبل ان يخرج من الشقة، استنى يابو ايوب، انت عاوز الناس تاكل وشى، ثم تقف فى مواجهته، لتضبط له الجلابية الصوف لتتساوى مع الجلابية الخفيفة تحتها ومع الصديرى والفانلة، وتضبط له الطربوش، ياستى هو انا رايح اتجوز؟، لأ لكن مظهرك قدام الناس لازم يليق بيك، هيقولوا معندوش ست تهتم بيه، روح ربنا يفتحها فى وشك، ويسترها عليك وترجع لنا بالسلامة. 
لم يكن ابى يفرض علينا نسقاً دينياً معيناً، أو يخضعنا لتعليمات صارمة، كيف نصلى متى نصوم أو وجوبية الذهاب للكنيسة، لكنه كان يعيش الإيمان ويترجمه فى حياته، كان بسيطاً وحكيماً، وكانت مواقفه فى هذا الصدد لا تنتهى.
سر مصر فى تواصل اجيالها، والمراكمة على قيمها الإيجابية وتعميق مفاهيم الجلد والمثابرة والعمل.