الثلاثاء 01 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

سليمان فياض .. وداعا "للمجاور العظيم وأحد مبدعي زمن الرواية"

سليمان فياض
سليمان فياض
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بقدر تنوع وغنى وخصوبة كتاباته وابداعاته يحق وصف سليمان فياض بأنه علامة اصيلة في التاريخ الثقافي المصري تماما كما تدخل بعض كتابات "المجاور العظيم واحد مبدعي زمن القصة والرواية المصرية" في مجال التاريخ الثقافي والمقاومة بالمعنى الشامل وولع مواجهة القبح والتخلف مع انحياز باسل لجماهير شعبه المصري وامته العربية.
وسليمان فياض الذي قضي امس الأول "الخميس" عن عمر يناهز 86 عاما كان صاحب ابداعات وكتابات متنوعة وبالغة الخصوبة على مدى نصف قرن مابين القصة والرواية وسير الأعلام العرب وعلم اللغة والمعاجم وتطور اللغة العربية مستندا في ذلك كله الى تكوين ثقافي راسخ منذ ايام الصبا في الأزهر الشريف.
والسيرة الذاتية لسليمان فياض بابداعاتها القصصية والروائية ومشاريعها اللغوية تكشف عن طرف من ظاهرة ثقافية مصرية اصيلة يمكن وصفها "بجدل المعممين والمطربشين" فسليمان فياض طالب العلم في الأزهر الشريف هو ذاته المثقف الطليعي واحد دعاة الدولة المدنية الديمقراطية في مصر .
وثمة حاجة لتأمل الدور الثقافي للأزهر واستعادة "صفحات جميلة كتبها الأزهر في الحياة الثقافية المصرية" وتجليات هذا الدور في تكوين مثقف كبير ومبدع اصيل مثل سليمان فياض الذي انتمى بحكم اصوله للشريحة الصغيرة من الطبقة الوسطى.
فنظرة لكتاب "ايام مجاور" وهو كتاب اقرب لسيرة ذاتية للكاتب سليمان فياض اثناء مرحلة الصبا وتلقي العلم بالأزهر تكشف عن مدى اهمية الدور الثقافي للأزهر في الحياة المصرية وشخصيات ملهمة في هذا المجال مثل الشيخ عبد الرحمن تاج والشيخ احمد الشرباصي الذي دل تلميذه الصغير في المعهد الأزهري بالزقازيق على مجلات الرسالة والثقافة والهلال وغيرها من المطبوعات التي كانت تثري الثقافة المصرية والعربية.
وهذا الكتاب المشوق حقا يتناول ضمن ماتناوله عبر صفحاته ال259 الصراع داخل المعاهد الأزهرية بين اتجاه تقليدي يركز على الحفظ والاستظهار واخر يروم الفهم والابتكار وهو الاتجاه الذي دعا له سليمان فياض.
وبعد سنوات وسنوات من انتهاء حياته الدراسية في هذا المعهد الأزهري لاينسى سليمان فياض كتابا درسه في الصف الأول الثانوي وهو كتاب "الآحاديث النووية" ويقول :"كان به اربعون حديثا بديعا لاأظن حتى اليوم ان هناك احاديث تضاهي معظمها جمالا وحكمة وقصصا ومحبة للعلم وبناء للضمير الخلقي".
ويوما ما سيتوقف التاريخ الأدبي طويلا أمام اسهامات سليمان فياض في الرواية المصرية المعاصرة وقد يأتي عقل نقدي ليلاحظ ان سليمان فياض كان همزة وصل بين "فريقي المعممين والمطربشين في الحياة الثقافية والأدبية المصرية".
وبدأ سليمان فياض مسيرته الابداعية بكتابة القصة القصرة واصدر مجموعات قصصية من بينها :"عطشان ياصبايا" عام 1961 و"بعدنا الطوفان" عام 1968 و"ذات العيون العسلية" عام 1992 بينما ترجمت روايته "اصوات" الصادرة عام 1972 الى عدة لغات وكان بأعماله القصصية والروائية في قلب "زمن القصة والرواية في مصر والعالم العربي".
ناقد كبير واكاديمي لامع تقلد حقيبة وزارة الثقافة مثل الدكتور جابر عصفور يقول في سياق تناوله لما يعرف "بزمن الرواية" ان الرواية فن الطبقة الوسطى من الأفندية الذين نالوا تعليما مدنيا في المدن فأسسوا فريق المطربشين في زمنهم الصاعد الواعد مقابل زمن المعممين الذين اخذ عالمهم الثقافي يفسح المجال لزمن قادم يحمل مشاعله مطربشو الطبقة الوسطى ابناء المدن الذين نهض بهم وتأسس على ايديهم فن القص.
غير ان سليمان فياض بدأ "معمما في الأزهر وانتهى مطربشا او افنديا مندمجا كل الاندماج في الحياة المدنية خارج الاطار الأزهري بقدر مايمكن القول انه جمع في تكوينه الثقافي مابين الوعي الأزهري والوعي المدني".
ولئن كان سليمان فياض قد نال تعليما ازهريا وافصح عن نزعة يسارية في كتاباته وابداعاته فمن الطريف والدال ان الكاتب اليساري الراحل احمد عباس صالح تحدث بحنين وايجابية في سيرته الذاتية المعنونة "عمر في العاصفة" عن فترة من حياته عمل بها كموظف بالآزهر الشريف ممتدحا الدور الثقافي للأزهر وخاصة على صعيد العلاقات مع دول العالم الاسلامي.
وعندما يحين الوقت للكتابة بتوثيق دقيق حول دور الأزهر في الحياة الثقافية المصرية والعربية ستكون هناك حاجة لوقفة امام آباء ثقافيين مروا بالأزهر دون اتمام تعليمهم الأزهري لسبب او لآخر مثل الصحفي الكبير الشيخ علي يوسف والأديب مصطفى لطفي المنفلوطي او قرروا مواصلة الحياة الأكاديمية في جامعات مدنية مثل عميد الآدب العربي الدكتور طه حسين.
وكذلك ثمة حاجة لتأمل ذلك التنافس غير الخقي بين خريجي الأزهر وخريجي دار العلوم وآثار هذا التنافس في الحياة الثقافية ومايعرف "بالعصبية اللغوية" لأنصار كل فريق وهي عصبية لم تكن تخلو من نواحي فكاهية ومناوشات قلمية .
انما الأصول الجامعة مابين "المجاور الأزهري والمثقف الطليعي" في شخصية وتكوين سليمان فياض يمكن ردها الى نفر من الآباء الثقافيين المصريين كرفاعة الطهطاوي الذي يمكن وصفه في سياق القرن التاسع عشر بأنه من "الطليعة الأزهرية التي تقدمت بشجاعة لاكتشاف الآخر المتقدم في اوروبا وفتح ابواب الافادة من ثقافة الغرب وادابه وعلومه ونظرياته ومذاهبه السياسية القائمة على ان العدل اساس العمران وان العمران يتقدم بالدساتير التي ترعى الحقوق الانسانية وخاصة حق المساواة والحق في الابداع.
وبدا سليمان فياض دوما معنيا باضاءات ثقافية للتاريخ العربي واعلام العرب والمسلمين في الحياة الثقافية والعلمية مثل ابن النفيس وابن الهيثم وابن بطوطة والبيروني وجابر بن حيان وابن البيطار وابن سينا والفارابي والخوارزمي والادريسي والدميري وابن رشد والجاحظ وابن المقفع وابن خلدون وابن ماجد والقزويني.
وفي كتاباته ومعالجاته التاريخية العربية والاسلامية ادان سليمان فياض الاستبداد بلا تحفظ غير انه لم يقع في فخ المساواة بين تراث الاستبداد والحقائق الجوهرية للدين الحنيف المنتصر لقيمتي العدل والحرية كما انتصر للتعددية الثقافية
وسليمان فياض ابن محافظة الدقهلية والذي تخرج من كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر عام 1956ينتمي لجيل ثقافي استفاد من ثمار ونفحات مباركة لمثقفي الحقبة الليبرالية وتداعيات ثورة 1919 وهو ذلك الجيل الذي يزدان بأسماء في قامة وقيمة طه حسين والعقاد والمازني وتوفيق الحكيم ويحيي حقي وصولا في مرحلة تالية للعظيم الخالد نجيب محفوظ.
ولعل معنى الانفتاح الثقافي لجيل نجيب محفوظ بكل تأثيراته القوية في اجيال تالية من بينها جيل سليمان فياض يتبدى في قوله :"نحن في جيلنا نشأنا وقرأنا في كل الآداب سواء بالعربية او بالانجليزية..قرأنا كل الألوان والأشكال التي لاتخطر ببال..قرأنا في محاولة لايجاد صيغة جديدة تستوعب الأفكار التي تسيطر على العالم كله".
ويقول الأديب الراحل سليمان فياض مسترجعا بدايات تجربته المديدة في عالم القصة :"ماكان يشغلني هو تعلم الأدب القصصي الواقعي والذي وقفت على ضروبه من اساتذتي نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف ادريس وقد حرصت على قراءة اعمالهم كاملة على مدار عشر سنوات وتلك المدة هي التي اهلتني لكتابة اول رواية على الطريق الجديد للأدب الواقعي وهي رواية امرأة وحيدة".
ومن الطريف والدال أن نجيب محفوظ هو الذي اقدم عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره على مواجهة عملاق بحجم عباس محمود العقاد انكر اهمية الرواية بالقياس الى الشعر واذا بمحفوظ يرد على العقاد عام 1945 بقوله انه اذا كان الشعر قد ساد في عصور الفطرة والأساطير فان عصر العلم والصناعة والحقائق يحتاج حتما لفن جديد يوفق على قدر الطاقة بين شغف الانسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم الى الخيال وقد وجد العصر بغيته في القصة.
هكذا تنبأ نجيب محفوظ في مقالة بمجلة الرسالة بعددها الصادر في شهر سبتمبر عام 1945 بأن القصة والرواية عموما ستتقدم على الشعر عندما تستكمل في مصر العناصر التي تجعلها مواكبة لعصر الصناعة وهكذا كان هرم الرواية المصرية والعربية يمهد السبل لأجيال تالية من بينها جيل سليمان فياض فيما قد لايعرف البعض ان سليمان فياض الذي كتب برامج وتمثيليات للاذاعة كان في مقدمة من شجعوا السيناريست المصري الراحل اسامة انور عكاشة واحد ابرز اعلام "الأدب التلفزيوني المصري" على كتابة الدراما التلفزيونية.
وسليمان فياض احد صانعي "زمن الرواية" منذ ستينيات القرن العشرين في مصر والعالم العربي بما يعنيه هذا المصطلح في ظل ثورة المعلومات من اتساع الحدود الجغرافية لكتابة الرواية وتكاثف الابداع الروائي على نحو غير مسبوق بل وانتقال عدد من الشعراء الى كتابة الرواية او ترجمتها على نحو مافعل الشاعر العراقي سعدي يوسف على سبيل المثال.
وقد تناول الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة الحالي هذه الظاهرة بتفاصيلها في كتاب صدر في اواخر العقد الأخير من القرن المنصرم بعنوان "زمن الرواية" فيما اوضح ان فكرة هذا الكتاب تولدت في ذهنه حتى من قبل ان يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 مشيرا في هذا السياق الى اتساع معدلات مبيعات الرواية في دور النشر بالقياس الى مبيعات الدواوين الشعرية.
وزاد من هذه الظاهرة-كما يلاحظ عصفور-ازدهار الفن السينمائي واعتماده على نصوص روائية متعددة المذاهب والاتجاهات فيما باتت بعض دور النشر تبيع نصوص الروايات على هيئة اشرطة واقراص للكمبيوتر ومن اللافت في هذا السياق ان سليمان فياض انخرط كخبير لغوي في مشروع تعريب لبعض برامج اللغة العربية في عالم الكمبيوتر وهو ايضا من الف معجم الأفعال العربية المعاصرة والدليل اللغوي وانظمة تصريف الأفعال العربية والأفعال الشاذة .
والمتأمل لابداعات وكتابات سليمان فياض سيجدها حافلة بتمجيد الحرية كقيمة انسانية سامية ومحاربة الظلم والتمييز والطائفية بقدر ماكان على المستوى الفني صاحب اسهامات كبيرة حقا في تطوير لغة السرد ومفردات القص والتقريب بينها وبين واقع الحياة اليومية في المجتمع الذي لم ينفصل عنه ابدا.
فلن تجد في كتابات سليمان فياض الذي كان الأزهر حاضرا في تكوينه الثقافي لغة المقامات المتقعرة او المفردات الغريبة والنائية والبعيدة عن لغة الحياة اليومية والناس في سعيهم وكدحهم وفي الوقت ذاته فان ابداعاته حققت وتحقق فيها الشرط الأصيل لمتعة القاريء جنبا الى جنب مع تحفيزه على فضيلة التفكير واهمية التغيير للأفضل.
ومن المنظور الثقافي العام فان ابداعات وكتابات سليمان فياض تصب في ذلك المجرى النبيل لمثقفين مصريين مهمومين دوما بهموم شعبهم وقابضين على جمر الكلمة الشريفة التي تسعى لتحقيق احلام الشعب وامانيه في حياة حرة كريمة وكأنه يسعى ضمنا لتحقيق مقولة نجيب محفوظ التي اكد فيها على ان الرواية آداة ابداعية بالغة الأهمية في عصر الديمقراطية الذي تسعى فيه الجماهير ايضا الى تأكيد حقها في العدل الاجتماعي.
ولئن تطوع سليمان فياض لفترة في صفوف المقاومة الفلسطينية فالكتابة الروائية والقصصية عنده كمبدع مصري كبير آداة تنوير بقدر ماهي سلاح مقاومة في مواجهة تخلف الواقع عن الحلم والأمل وصيحة وصحوة من اجل العدل وانحياز لاريب فيه لقيم الحق والخير والجمال ثم انها علامة بارزة على طريق صعود مكانة الرواية المصرية المعاصرة .
صاحب "احزان حزيران" و"العيون" و"وفاة عامل مطبعة" و"الصورة والظل" و"زمن الصمت والضباب" ستبقى دوما نجما هاديا في سماء الابداع والثقافة المصرية والعربية..سليمان فياض :وداعا للجسد الثاوي في ثرى الوطن لكن "المجاور العظيم والمبدع الكبير لزمن الرواية المصرية والعربية" باق في القلب وحاضر ابدا في ثقافة الوطن..تحية لروح المبدع البهي وصاحب الضمير الوطني وصولجان التواضع.