أعلن الرئيس الأمريكى، باراك أوباما، الإثنين الماضى، أن هناك «اختلافات جوهرية» مع رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، حول مسألة المفاوضات النووية مع إيران، وكذلك حول مسألة فرض عقوبات جديدة على طهران.
وشدد على وجود اتفاق بين واشنطن وبريطانيا وألمانيا، وعدم جدوى تعكير أجواء المفاوضات قبل شهر أو شهرين من اقتراب اكتمالها.. وهو عين ما أبلغ به أوباما جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز، العاهل السعودى، في أثناء زيارته لتقديم واجب العزاء، وكشفنا عنه هنا في تقرير نشرناه، أمس الأول «الثلاثاء»، حيث قال أوباما بالحرف:
«إن أمن الخليج واستقراره هو جزء مهم من المفاوضات الإيرانية الأمريكية، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تضحى بعلاقاتها التاريخية والإستراتيجية مع دول الخليج، خصوصا المملكة العربية السعودية في إطار المفاوضات الإيرانية الأمريكية، وأن الطريق الذي تسير عليه الولايات المتحدة بهذا الشأن يلتقى في المحصلة مع أمن واستقرار الخليج»، مشددًا على «أن الرفض المطلق لأى مفاوضات خليجية إيرانية لا يصب في مصلحة دول الخليج، فإيران واقعٌ لا بد من التعامل معه، وفق القوانين والعلاقات الدولية وسيادة كل طرف دون التدخل في شئون الطرف الآخر».
سعى أوباما من خلال طرح القضية بهذا الشكل على القيادة السعودية الجديدة، لعزل التحرك الإسرائيلى في هذا الملف عن أي دعم خليجى أو أي موقف موحد بينهما في إطار لقاء المصالح، فأوباما مصمم على السير بهذا الملف لنهايته، رغم كل العقبات التي تضعها إسرائيل أمامه وبخاصة في «الكونجرس».
لقد استدعانى الموقف برمته لإعادة سماع مكالمة كنت قد أذعتها في برنامج «الصندوق الأسود» بين دان بيرجمن، مبعوث أوباما الشخصى لشئون الأمن، والدكتور محمد البرادعى، في مارس 2011.
كان البرادعى ودان يتحدثان عن الوضع في مصر وإعادة ترتيب أوراق المنطقة في حال تحول البرادعى إلى لاعب رئيسى، حيث كان يعتقد آنذاك إنه بات قاب قوسين أو أدنى من منصب رئيس الجمهورية في مصر.
قال البرادعى لدان، أعتقد إن هذا هو الوقت المناسب لإشراك إيران في اللعبة، لأن المنطقة حاليا على وشك الانفجار من نواحٍ كثيرة، لذا عليكم أخذ إيران وتركيا في صفكم لأسباب مختلفة، وطرح البرادعى على دان إمكانية قيامه بدور في هذا الإطار عبر علاقته الوثيقة بعلى صالحى، وزير الخارجية الإيرانى الأسبق، والرئيس الحالى لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، عن طريق نقل أفكار الأمريكان إليه باعتبارها أفكاره هو، وشدد البرادعى في مكالمته، على أن الإيرانيين قد يكونون مصدر استقرار مهم على الأقل في أفغانستان والعراق، وبادره دان بالقول، هذا جيد، وأنا لدى خطة لدمج هذا الأمر مع موضوع تركيا، وأنا لدى اتصال جيد بالأتراك، مشددًا على أنهم باتوا، أي الأمريكان، قريبين جدا من حكام تركيا، في إشارة إلى رجب طيب أردوغان.
ورد عليه البرادعى بالقول: (عظيم عظيم، لقد قلت هذا لبيل -في إشارة إلى بيل بيرنز المبعوث الأمريكى في الشرق الأوسط آنذاك- والحقيقة أننى خلال وقت قصير قد أقابل الرئيس التركى ووزير خارجيته.. إنهما في مصر لعدة ساعات، فربما سأقابلهما مرة أخرى وسأخبرهما أن يظلا نشطين ويستمرا في الحوار مع إيران، ورد دان على الفور: اسمع.. هذا هو أفضل استخدام لخمسة وعشرين يناير).
لا أدرى لماذا أقوم بتربيط كل هذه الخيوط الآن، أمريكا تسعى سعيا حثيثا للوصول إلى حل مع إيران يرضى كل الأطراف، حتى وإن كان على حساب ربيبتها إسرائيل، وتحاول إقناع السعودية بالوقوف معها مع ضمان عدم وجود أي بند في الاتفاق يخل بالمصالح الخليجية بشكل عام، والسعودية بشكل خاص.. وقبلها يسعى البرادعى لاستغلال 25 يناير في حلحلة الأوضاع بين الولايات المتحدة وإيران، للتوصل إلى اتفاق يساعد أمريكا في ترسيخ ما سماه بالاستقرار، بالمفهوم الأمريكى، في العراق وأفغانستان.. واعتبر هو وصديقه الأمريكى أن ذلك هو أفضل استغلال لـ25 يناير.
فكيف وصل الإيرانيون إلى هذا الحد من النجاح لمشروعهم؟ وما مشروعهم بالأساس؟!
لقد بدأ الإيرانيون مشروعهم النووى وعينهم على ريادة المنطقة، أو قل نزع اعتراف أمريكى غربى، باعتبار إيران شرطى المنطقة بلا منازع. كان أمام الأمريكان أربع دول رئيسية تجيد القيام بهذا الدور، مصر باعتبارها زعيمة المنطقة العربية، وإسرائيل باعتبارها الطامح والطامع في هذا الدور، وتركيا، وإيران.
خرجت تركيا من المنافسة بعد سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وخرجت إسرائيل باعتبارها كيانا لن يقبل أحد به زعيما للمنطقة، حتى لو جاء على أسنة الرماح الغربية الأمريكية، وبالتالى سيصبح عامل عدم استقرار وصداعا دائما لحلف الأطلسى، وبقيت في اللعبة مصر وإيران.
اعتمدت مصر، كالعادة، على المركز الجغرافى والثقل الإقليمى، واستكانت لكونها رمانة الميزان وحليفة الأمريكان، وزعيمة العرب، وبقيت إيران تكافح وحدها للوصول إلى الهدف.
وما بين رفض إدارة الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش للعرض الإيرانى الذي قدمته حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمى في خريف عام 2003، والذي تضمن استعداد طهران للتفاوض المباشر مع واشنطن، ليس بشأن البرنامج النووى فقط، وإنما أيضا بشأن الوضع في العراق وعلاقة إيران بالفصائل الفلسطينية المسلحة، وكذا العلاقة مع حزب الله. وما بين سعى أوباما للوصول إلى اتفاق ينهى هذا الملف وتسليم مفاتيح المنطقة إلى إيران في عام 2015 جرت في النهر مياه كثيرة.
الورقة العراقية
عرفت إيران أن الورقة العراقية هي طوق النجاة الوحيد لها للوصول إلى هدفها، فراحت تمد يدها منذ ما قبل احتلال العراق للتشابك مع كل أوراق اللعبة في بغداد.
من الناحية السياسية كانت طهران تدرك أن جل المعارضين الأساسيين، الذين شاركوا في مؤتمر لندن 2002 من الشيعة، هم من الموالين لها، وفى مقدمتهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي كان يتخذ من طهران مقرا له، ولكنها لم تكتف بذلك، فراحت تمد الجسور مع كل الأطراف الشيعية الأخرى، كالمرجعية النجفية، وحزب الدعوة، والتيار الصدرى، لضمان إمكانية لعب الدور الأكبر سياسيا في العراق.
وعلى الجانب الآخر، راحت تستغل سقوط طالبان والروابط القديمة التي تربط الحرس الثورى بقادة عدد من أهم التنظيمات الإرهابية، التي كانت موجودة على الأراضى الأفغانية في نسج خيوط أكثر خصوصية معها، لاستخدامها فيما بعد داخل الساحتين الأفغانية والعراقية.
ولم تنسَ قبل هذا وذاك أن تقوم باستغلال الفوضى التي أحدثتها عملية سقوط بغداد وهروب أركان النظام السابق لإدخال أكبر عدد من الكوادر الاستخبارية التابعة لها إلى العراق، للقيام بأعمال لوجيستية أتاحت الفرصة لإيران لتكون اللاعب الرئيسى بلا منازع على الساحة الداخلية في البلاد.
وبهذا باتت كل أوراق اللعبة في العراق، ومعظمها في أفغانستان، بيد طهران. ورغم وصول تلك الرسالة إلى واشنطن من أكثر من وسيط فإن الإدارة الأمريكية كانت مترددة في اتخاذ موقف بشأنها، حتى جاء عام 2006 وبدأ الوضع الأمنى ينهار تماما في العراق، فوصلت واشنطن إلى قناعة تامة بأن تحقيق أي نجاح في العراق لا يمكن أن يتأتى دون تعاون إيرانى، فتم على الفور فتح صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الإيرانية، آنذاك، رغم كل ما كان يقال حول تأزم تلك العلاقة في بعض الفترات، امتدت تلك الصفحة لتشمل موضوعات أخرى بخلاف الساحة العراقية، منها لبنان وسلاح «حزب الله»، و«حماس»، وموقفها من قضية التسوية والمفاوضات المباشرة مع إسرائيل، وأفغانستان والموقف من طالبان، الأمر الذي أهل طهران للعب دور «الدولة الرئيس» في المنطقة.
في ذلك الوقت كانت المخططات تجرى على قدم وساق لاختراق المنطقة العربية، عبر حصان طروادة الإخوانى، في محاولة لإعادة تقسيمها وتفتيت جيوشها، لتتماشى مع الوضع الجديد لشرطى المنطقة، أو المندوب السامى الأمريكى «طهران سابقا». حتى وصلنا إلى ما سمى بـ«الربيع العربى»، الذي بدأ في تونس، ولم تقف تداعياته حتى الآن، على معظم الدول العربية.
والآن والجيم يصل إلى مداه، هل تكون زيارة الرئيس الروسى بوتين وخيارات مصر على الصعيدين، الخارجى والداخلى، بداية لقطع الطريق على حفل التنصيب الذي تنوى أمريكا القيام به في إبريل المقبل لإيران.
والسؤال الأهم: هل تقوم مصر بما يجب عليها القيام به داخليا وخارجيا لوقف ذلك العدوان السافر على دورها التاريخى ومكانتها الإقليمية في المنطقة؟ هذا ما سوف نجيب عنه في الأسبوع القادم.