تاريخ قديم وصراع أليم مع الإرهاب، خاضته روسيا الاتحادية، بسبب الطبيعة الديموغرافية للبلاد المتعددة الطوائف والإثنيات، تلك التي يشكل المسلمون فيها 10% من سكانها. وطوال تلك السنوات التي بدأت من أوائل التسعينيات وحتى بداية الألفية الثالثة، قامت الحكومة الروسية بمحاولات عديدة لاحتواء الإرهاب القادم من شمال القوقاز، وتحديدًا من الشيشان، عبر سنّ قوانين عديدة لمكافحة الإرهاب، وصولًا إلى الحرب المباشرة على أراضي الشيشان عام 1999، عند تولي قيصر روسيا الجديد فلاديمير بوتين رئاسة الوزراء آنذاك، ردًا على غزو فيلق إرهابي مكون من 2000 شخص مدعومين من تحالف غربى مشبوه، كما يحدث الآن في مصر، كان الهدف منه واضحا وصريحا وهو تقسيم روسيا كما جرى مع الاتحاد السوفييتي.
ففي منتصف وأواخر التسعينيات، وفي محاولة لتفتيت روسيا، تكاتفت واشنطن، مع حلفائها في الغرب إضافة إلى تركيا وجورجيا، لدعم الانفصاليين الشيشان بالمال والرجال والسلاح، استغل الأمريكيون ضعف الرئيس الروسى الأسبق، بوريس يلتسين، وفساد حاشيته، ليقوموا بمساعدة الشيشان على الانفصال عن روسيا الاتحادية عام 1996.
وفى عام 1998 وبفعل تمويل ضخم وسخي قدم للجماعات الإرهابية، تحت غطاء دعم المجاهدين الإسلاميين، تم تأسيس وحدة عسكرية إرهابية عرفت باسم اللواء الإسلامي الدولي، تكونت من داغستانيين وشيشانيين في مقدمتهم شامل بساييف وخطاب، تحدد هدف الوحدة في طرد الروس من كامل القوقاز وتوحيده في إمارة (بلد) إسلامية كبرى وتدفق من أجل ذلك التمويل من كل صوب وحدب، خاصة من بعض دول الخليج وواشنطن. جاء عام 1999 وقد قرر اللواء المكون من 2000 مقاتل غزو داغستان لضمها للحكم الإسلامى الشيشانى وإقامة خلافة إسلامية بالقوقاز! كان هذا الأمر، بخلاف إهماله قدرات الشيشان المحدودة، يتناسى تغيرا مهما جدًا في السلطة الروسية، تمثل في صعود فلاديمير بوتين، عقب تدهور صحة بوريس يلتسين، إلى قمة السلطة الفعلية في البلاد، كان بوتين، رجل الـ«كى جى بى»، يدرك جيدا مخاطر ما يحدث على الساحة القوقازية، ويدرك الأبعاد الحقيقية له باعتباره مشروعا كبيرا القصد منه تقسيم روسيا. وكان هذا الخطأ من مقاتلى الشيشان سببًا رئيسيًا في إعادة احتلال الشيشان.
روسيا.. فصول من الإرهاب
بين عامى ١٩٩٤ و١٩٩٦ شَهدتُ موسكو أبرزَ فصول الحرب التي خاضتها ضد الإرهاب في الشيشان. تفجيراتٌ متنوعة، خطف طائرات من المطار المحلي، احتجاز العشرات من المرضى والعاملين في مستشفى كرهائن للضغط على الكرملين.. كل ذلك كان يجرى بينما كانت المعارك تتواصل بين القوات الروسية والانفصاليين الشيشان في المدن والقرى والجبال الشيشانية.. تكبد الروس خسائر فادحة في الأرواح حتى رضخ الرئيس بوريس يلتسين في النهاية ووقع على اتفاقية (خسافيورت)، التي كرست استقلالًا فعليًا لجمهورية الشيشان عن الاتحاد الروسي. كانت تلك هزيمة معنوية للروس قبل أن تكون عسكرية. في المقابل كان الجميع في روسيا وخارجها يعى جيدًا أن الغرب لعب الدور الأكبر في انتصار الانفصاليين الشيشان في الحرب الأولى. كانت المعركة الحقيقية هي غرسُ شوكة في الخاصرة الروسية.
اجتهدت واشنطن وحلفاؤها لتفتيت روسيا وتكرار سيناريو الاتحاد السوفييتي السابق. استخدمت كل الوسائل، لكنها راهنت بشكل أساسي على انفصال جمهورية الشيشان، حتى تفتح الباب أمام بقية جمهوريات الفيدرالية الروسية، لا سيما في منطقة شمال القوقاز. استغلت ضعف الرئيس الروسى يلتسين، وساعدت بالأموال والرجال، سهلت عن طريق تركيا وأذربيجان وجورجيا وصول (الإرهابيين) من شتى البلدان إلى الجمهورية الشيشانية!
كان وصول فلاديمير بوتين للحكم نقطة التحول الرئيسية، فقد تغير المشهد تمامًا. تعامل الزعيم الروسي الجديد بحنكة لبناء جبهة داخلية قوية، كانت له السند الأكبر في خوض الحرب الشيشانية الثانية، التي اشتعلت شرارتها الأولى في أغسطس ١٩٩٩ بغزو ميليشيات ما يسمى (اللواء الإسلامى الدولى) بقيادة الشيشانى شامل باساييف، والعربى خطاب لجمهورية داغستان المجاورة للشيشان. مثَّلت تلك العملية لبوتين، الذي كان آنذاك رئيسًا للوزراء، تحديًا كبيرًا، إذ أيقن أن الحركة الانفصالية الشيشانية بدأت تنفيذ ما كان يعلنه قادتها بشأن إقامة إمارة إسلامية تضم أقاليم وجمهوريات مجاورة. استطاع بوتين دحر مقاتلى باساييف وخطاب وحرر القرى الداغستانية، لكن الرد الشيشانى جاء مدويًا في قلب موسكو!.. بعد قرابة شهر استهدفت سلسلة تفجيرات بنايات سكنية فأوقعت عشرات القتلى والمصابين كانوا نائمين في شققهم!.. يومها أطلق بوتين تهديده الشهير للانفصاليين الشيشان وقادتهم: (سنطاردهم في كل مكان حتى داخل دورات المياه!)..
في آخر أيام عام ١٩٩٩ قدم يلتسين استقالته وأصبح بوتين رئيسًا بالإنابة، وقاد بوتين معركة لم تكن عسكرية فقط، بل إعلامية ودبلوماسية واقتصادية واستخباراتية كان عنوانها الرئيسى: الحسم!.. عندما أدرك أن الأمر يتعلق ببقاء روسيا كدولة موحدة لم يترك مجالًا للحلول الوسطى.
قانون صارم للإرهاب
في عام 1994 كانت العملية الإرهابية الأولى المنظمة التي قامت بها الجماعات الإرهابية المدعومة من الغرب، وهى اختطاف رهائن من حافلة ركاب، وفى عام 1995 احتجاز رهائن في مستشفى مدينة بوديونوفسك، وفى عام 1996 اختطاف 3 آلاف رهينة في دار الولادة في مدينة كيزليار. وتوالت عشرات بل مئات العمليات الإرهابية التي كانت حتمًا تنتهى بخسائر بشرية، ورغم قوانين الإرهاب المتتالية التي وافق عليها مجلس النواب الروسى إلا أن القانون الأخير الذي أعلنه الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، بات الأكثر قوة وتأثيرًا، حيث يقضى بتحميل عائلات «الإرهابيين» مسئولية التعويض ماليًا عن الأضرار التي يمكن أن تكون وقعت بسبب أعمال أحد أقربائهم، فقد حد كثيرا من العمليات الإرهابية.
وقد حدد القانون الأقرباء حتى الدرجة الرابعة، والذكاء في هذا القانون أنهم أدركوا أن هذا الإرهابى قد يتخفى عن الجميع، لكنه لن يستطيع أن يتخفى عن أقربائه أو من يعيش معهم، وفى الأيام الأولى لصدور هذا القانون، توالت البلاغات عن إرهابيين من أقربائهم أنفسهم حتى يتمكنوا من إخلاء مسؤولياتهم أمام الدولة والقانون، وحتى لا يتحملوا جرائم غيرهم. ونجح القانون في شهوره الأولى في السيطرة على الإرهاب في روسيا، وكذلك في الوصول إلى إرهابيين خطيرين ما كان الأمن ليصل لهم من دون الإرشاد عنهم. ويتضمن القانون أيضًا عقوبة تصل إلى السجن لمدة تصل إلى 20 عامًا لمن يشارك في تشكيل تنظيم إرهابي، والسجن لمدة تصل إلى 10 سنوات لأي شخص «يتلقى تدريبًا الهدف منه تمكينه من ارتكاب أعمال إرهابية»، وخصوصًا التدريب على كيفية التعامل مع المتفجرات والأسلحة. كما يقضى القانون بفرض عقوبة تصل إلى 6 سنوات على أي شخص ينضم في الخارج إلى مجموعة إرهابية تعتبر نشاطاتها مؤذية لمصالح روسيا.
تصفية الإرهابيين
قضى بوتين على قادة الحركة الانفصالية في داخل الجمهورية الشيشانية مثل اغتيال جوهر دواديف 1996 رئيس الشيشان - اغتيال الإرهابى الدولى خطاب 2002- اغتيال أصلان مخادوف - اغتيال شامل بيسايف - اغتيال دوكو عمروف.
وقف معظم الشعب الروسى ولا يزال مع بوتين في حربه ضد الإرهاب حتى حقق الجيش الروسى النصر العسكري وعادت الشيشان جزءًا لا يتجزأ من الفيدرالية الروسية.. تحولت العاصمة جروزنى إلى واحدة من أجمل المدن في جنوب روسيا.. أُعيد بناؤها من جديد، وكذلك كان حال جميع المدن والقرى التي تضررت جراء حربين طاحنتين.
الرئيس بوتين لم يكتف بالنصر العسكري فقط، بل انتصر مخابراتيا، واستطاع القضاء على بعض قادة الانفصال، كما صفى الرئيس الشيشانى سليم خان يندرباييف في قلب العاصمة القطرية الدوحة.
لم يتبقَ من الحركة الانفصالية سوى جيوب صغيرة تحتمى بالجبال، وتقوم بين حين وآخر بالبرهنة على وجودها عن طريق عمليات إرهابية متفرقة في المدن الروسية.. لكن الجميع يدرك في النهاية أن الدولة الروسية قد انتصرت، وأن النصر لم يكن ليحالفها لولا الحسم!