تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
فى يقينى أنه مر من الوقت ما يكفى للخروج من حالة التوصيف والتنظير التى استغرقتنا، والجدل الذى صار خبز يومنا على غير أساس معلوماتى، والشروع فى الالتفات للمستقبل بجدية، تبدأ بتبنى العمل مدخلاً أساسياً للتنمية والخروج من نفق التراجع الذى اكتنفنا مع أنظمة مترددة ولا تملك رؤية، عمل جاد يعيد الإنتاج إلى موقع الصدارة، من خلال تثوير القوانين المنظمة له، والمتأرجحة بين المدارس الاقتصادية المتباينة التى تبدلت على السلطة وانتهت إلى الفساد، تحمى حقوق العاملين، وتضبط إيقاع عملهم، وترفع كفاءة الأداء، وتفعل العدالة بين عناصر العمل، وفق معايير أخذت بها كل الدول التى شقت طريقها إلى التقدم، ونموذجنا، بلاد الشرق الأقصى التى كانت قبل أقل من نصف قرن ترزح تحت نير الاستعمار والتخلف لتقفز فى سنوات معدودة إلى صفوف الاقتصادات القوية، ومثالنا جزيرة سنغافورة، وهى تجربة تستحق أن نفرد لها طرحاً خاصاً فيما بعد، يكفى أن نعرف أنها تضم عدة "عرقيات وإثنيات" و"أجناس وألوان"، و"أديان"، ومع ذلك لم تعان من أي أزمات طائفية أو مصادمات عرقية، الأمر الذى استنفر الحس الصحفى لدى الصديق شارل فؤاد المصرى فى زيارته لها، فراح يبحث عن سر تقدم هذا البلد الصغير فى زمن قياسى ليكتشف أنه تبنى ثقافة "التسامح والتعايش" بجدية تتجاوز البيانات الوردية وصور العناق الموسمية، فيكتب تجربته وتجربتها فى كتابه الذى صدر قبل أيام "رحلات إبن فؤاد فى وصف البلاد والعباد".
على أن تجربتنا التى يتشكل جنينها فى رحم المخاطر، تواجه سعى الأنظمة الغاربة لعودة نظام الفساد ونظام تديين الحكم، بدعم إقليمى ودولى يرمى إلى إسقاط الدولة وتفكيك الوطن، حتى يتسنى إحكام السيطرة على المنطقة وإعادة هيكلتها وفق خارطة الشرق الأوسط الجديد.
ومن هنا تصبح مواجهة الإرهاب فرض عين، يتطلب عملاً جاداً فى تجفيف منابعه، وقطع الطريق على مسارات تمويله ودعمه، وهو أمر لا ينحصر فى دوائر المواجهات الأمنية الجادة والمؤثرة، والتى لولاها لكنا أمام واقع مختلف ودامى، ولعل الأمر يتطلب إعادة تشكيل الذهنية العامة، بعد أن تم تجريفها بدأب وبشكل ممنهج، على مدى عقود، لحساب الارتداد إلى ما قبل الدولة، وإحياء حلم الخلافة الذى سقط بسقوط العثمانيين 1923، ومسار الإحياء بدأ بتأسيس جماعة الإخوان 1928، بدعم من القوة العظمى وقتها، بريطانيا، ثم بدعم معاصر من القوة العظمى الحالية، أمريكا، ووسطاء المنطقة.
التجفيف لا يتوقف عند تثوير التعليم والإعلام والثقافة وحسب، باعتبارهم الآليات المباشرة والأكثر فعلاً وتأثيراً فى تشكيل الذهنية العامة، لكنه يتطلب إعادة هيكلة غابة القوانين بدرجاتها، من القانون الى التعليمات مروراً بالقرارات واللوائح، بما يطلق الإبداع من قيوده، ويطلق الشباب الى مواقع القيادة، من القرية الى المدينة ومن الريف الى الحضر، ومن موقع العمدة الى موقع الرئيس. وبالتوازى نتخذ من الإجراءات ما يعيد للقانون هيبته فى عبوره من المواد المكتوبة إلى التطبيق فى الشارع، ومن المحاكم إلى الأقسام ومواقع التنفيذ، بصرامة تواجه إمبراطورية الفساد بين ربوعها.
وقديماً قامت الدول المتحررة حديثاً فى إفريقيا والعالم العربى باستقدام الخبراء والفقهاء الدستوريين المصريين لتأسيس منظوماتهم القانونية والقضائية، فلماذا لا نستقدم نحن خبراء الدول التى قفزت إلى صدارة العالم اقتصادياً، فى ظل مناخات ثورة المعلومات ومستجدات التقنية، للاستفادة من خبراتهم بغير غلو أو استعلاء؟. فانضباط العلاقات البينية داخل المجتمع من خلال سيادة القانون بمواده العامة والمجردة والملزمة هى الأساس الذى نبنى عليه نهضتة حقيقية، تواجه الفوضى والمناورات والتحايل منافذ الفساد الكبرى.
ويبقى أن نواجه حالة السيولة الدينية المفسدة لكل محاولات الخروج إلى النهار، ونفصل بشكل قاطع بين الدين والسياسة ليعود إلى دوره التنويرى الرعوى التعليمى الإنسانى فى المجتمع، ولعلنا ندرك أن كل البؤر المحتقنة والمشتعلة يلعب الدور الرئيسى فيها متطرفو الأديان وسعيهم لصبغ مجتمعاتهم برؤيتهم الضيقة، ومن ثم لا يستساغ أن نمرر الاعتراف بالأحزاب الدينية التى تنفى عنها هذه الصفة بينما تحتشد فعالياتها بكل ما هو دينى أحادى عنصرى طائفى، وتظل على الأرض أحد أبرز منابع التطرف المفضى للإرهاب، والمنتج لثقافة الكراهية.
ولما كان الواقع يؤكد أن للرئيس الدور الأساسى فى توجيه دفة الأمور فالكرة تصبح فى ملعبه لتحمل مسئولية دعم البناء وتجفيف منابع الإرهاب بقرارات حاسمة هو مؤهل لها، باستبعاد كل من كان له دور فى الأنظمة السابقة والثقة فى أجيالنا الجديدة فسيجد فيهم طاقات مذهلة، وإمكانات قادرة على الانتقال إلى براح التنمية، ولنا فى الشرق الأقصى "نماذج" تؤكد ذلك، عندما انحازوا إلى علمانية الدولة وسيادة القانون بحزم لا يعرف المهادنة أو المواءمات.